الذكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام اهتم بتوثيق عُرا الأسرة:
إن الإسلامَ يهدِف إلى بناءِ مجتمعٍ متراحمٍ متعاطِف، تسودُه المحبّةُ والإخاء، ويهيمِن عليه حبّ الخيرِ والعَطاء، والأسرةُ وحْدةُ المجتمع، تسعَد بطاعة الله وصلة الرّحِم، لذلك اهتمّ الإسلامُ بتوثيق عُراها، وتثبيتِ بُنيانها،
جاء الأمر برعايةِ حقّها بعدَ توحيد الله وبرّ الوالدين:
قال جلّ وعلا:
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى)
[النساء: 36]
وقُرِنَت مع إفرادِ الله بالعبادةِ والصّلاةِ والزّكاة:
فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ… فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ
[متفق عليه]
وقد أُمِرَت الأمم قبلَنا بصِلة أرحامِها، قال سبحانه:
قال تعالى:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى)
[البقرة: 83]
ودَعا إلى صِلتها نبيُّنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم في مَطلعِ نُبوّته:
قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ:
كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا نَبِيٌّ، فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي اللَّهُ، فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ:
أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ…
[رواه مسلم]
وأمَر بها عليه الصلاة والسلام أوّلَ مقدمِه إلى المدينة:
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، ثَلَاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ
[رواه الترمذيّ وابن ماجه واللفظ له]
وهي وصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم:
قال أبو ذر:
أوصاني خليلِي بصِلة الرّحم وإن أدبَرَت
[رواه الطبراني]
صِلةُ ذوي القربَى أمارةٌ على الإيمان:
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
… وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ…
[متفق عليه]
صلةُ الرحم عبادةٌ جليلة مِن أخصِّ العبادات:
يقول عمرو بن دينار:
ما مِن خَطْوةٍ بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خَطوةٍ إلى ذي الرّحم
ثوابُها معجَّل في الدنيا، ونعيمٌ مدَّخرَ في الآخرة،
قال صلى الله عليه وسلم:

ليس شيء أُطِيعَ اللهُ فيه أعْجَل ثوابًا من صِلةِ الرحم
[رواه البيهقيّ]
والقائمُ بحقوقِ ذوي القربَى موعودٌ بالجنّة:
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
… وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ، ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ، رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى، وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ
[رواه مسلم]
أمَرَ الله بالرّأفة بالأرحام كما نرأَف بالمِسكين:
قال عزّ وجلّ:
(وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)
[الإسراء: 26]
وحقُّهم في البذلِ والعطاء مقدّمٌ على اليتامَى والمساكين:
قال سبحانَه:
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)
[البقرة: 215]
وللسخاءِ عليهم ثوابٌ مضاعفٌ من ربِّ العالمين:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الْقَرَابَةِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ
[النسائي وابن ماجه]
وأوّلُ مَن يُعطَى مِن الصدقة هم الأقربون مِن ذوي المَسكنَة:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ:
بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ،
قَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ، وَبَنِي عَمِّهِ
[متفق عليه]
فالباذلُ لهم سخيُّ النّفس، كريم الشّيَم:
يقول الشعبيّ رحمه الله:
ما ماتَ ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلاّ وقضيتُ عنه دينه
ماذا تعني كلمة الأرحام؟
الأول: رحم الدين:
وهي رحم عامة تشمل جميع المسلمين، وتتفاوت صلتهم حسب قربهم وبعدهم من الدين، وكذلك حسب قربهم وبعدهم المكاني.
ويدل على ذلك قوله تعالى:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)
[الحجرات: 1]
فأثبت الله الأخوّةَ الإيمانية لجميع المسلمين.
وقوله صلى الله عليه وسلم:

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
[محمد]
الثاني: رحم القرابة، القريبة والبعيدة، من جهتي الأبوين:
ولكل من هذين النوعين حقوق ونوع صلة.
الروابطُ تزداد وُثوقًا بالرّحم، وقريبُك لا يَمَلّكَ على القرب، ولا ينسَاك في البُعد، عِزّهُ عزٌّ لك، وذُلّه ذُلٌّ لك.
قال القرطبي رحمه الله:

اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة، وأن قطيعتها محرمة
قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ
[أحمد]
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ عَنْ مِيتَةِ السُّوءِ
[الترمذي]
ما معنى صلة الرحم ؟
الرحم العامة رحم الدِّين، ويجب صلتها بملازمة الإيمان، والمحبة للمؤمنين، ونصرتهم، والنصيحة لهم، وترك أذيتهم، والعدل بينهم، والإنصاف في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى، ومواساة الفقراء، من دون أن يمن عليهم، ونصرة المظلومين، وحقوق الموتى، من غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لأهل الإيمان
الرحم الخاصة رحم القرابة، وتكون صلتها بزيارتهم، وتفقد أحوالهم، والسؤال عنهم، والإهداء إليهم، والتصدق على فقيرِهم، والتلطف مع وجيههم وغنيّهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتكون الصلة باستضافتهم، وحسن استقبالهم، وإعزازهم، ومشاركتهم في أفراحهم، ومواساتهم في أتراحِهم.
وتكون الصلة أيضاً بالدعاء للأرحام، وسلامة الصدر لهم، والحرص على نصحهم، ودعوتهم للخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإصلاح ذات البين إذا فسدت
وتكون الصلة أيضاً ببشاشةٍ عند اللّقاء، ولينٍ في المُعاملة، إلى طيبٍ في القول، وطلاقةٍ في الوجه، وزيارات وصِلات، وإحسانٌ إلى المحتاج، وبذلٌ للمعروف، ونصحُهم، والنّصحُ لهم، ومساندةُ مكروبِهم، وعيادةُ مريضهم، الصفحُ عن عثراتهم، وترك مُضارتهم، والمعنى الجامِع لذلك كلِّه: إيصالُ ما أمكَن من الخير، ودفعُ ما أمكنَ منَ الشرّ.
ثم إن الأقارب يختلفون في أحوالهم، وطباعهم، ومنازلهم، فمنهم من يرضى بالقليل، فتكفيه الزيارة السنوية، والمكالمة الهاتفية، ومنهم من يرضى بطلاقة الوجه، والصلة بالقول، ومنهم من يعفو عن حقه كاملاً، ويلتمس المعاذير لأرحامه، ومنهم من لا يرضى إلا بالزيارة المستمرة، وبالاهتمام الدائم، فمعاملتهم بهذا المقتضى تعين على حسن الصلة بهم، واستيفاء مودتهم.

لا تصح قطيعة الرحم حتى عند الإساءة:
حتى لو كان الأقارب من النوع المتعب الذي يقابل الإحسان بالإساءة، فلا يجوز أن تقاطعهم، لأنك تتعامل مع الله تعالى طاعة لأمره، والتزاما بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك يجب على المسلم أن يسلك كل السبل ليصل أرحامه، ويحسن إلى أقاربه وجيرانه.
إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوات، ويقَعون في خطيئات كبيرات، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا اعتذروا،
ولك في النبي الكريم يوسف القدوة والأسوة، فقد فعل إخوةُ يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل، ولم يوبِّخهم، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم،

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
[يوسف]
فغُضَّ عن الهفواتِ، واعفُ عن الزّلاّت، وأقِلِ العثرات، تجْنِ الودَّ والإخاء، واللينَ والصفاء، وتتحقَّقُ فيك الشهامةُ والوفاء، وداوِم على صِلة الرّحم، ولو قطعوا، وبادِر بالمغفرة، وإن أخطؤوا، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين، ولا تجعَل عِتابَك لهم سبباً لبعدهم عنك، وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء، وجانبِ الشحَّ، فإنّه من أسباب القطيعة،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا
[أبو داود، أحمد]
قيل لأحدهم: ما حقّ الرّحم ؟ قال:
تُستَقبَل إذا أقبَلت، وتُتْبَع إذا أدبَرت
رَجُلًا قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ:
لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ
[رواه مسلم]
أما إذا كانت الرحم فاجرة أو فاسقة، فتكون بالعظة والتذكير، وبألطف تعبير، وبذل الجهد الكبير، فإذا أعيتك الحيلة في هدايتهم كأن ترى منهم عناداً، أو استكباراً، أو أن تخاف على نفسك أن تتردى معهم، وتهوي في حضيضهم فابتعد عنهم، واهجرهم الهجر الجميل الذي لا أذى فيه ولا تحقير، وردد هاتين القاعدتين،
دع خيراً عليه الشر يربو ، و درء المفاسد مقدم على جلب المنافع
وأكثر من الدعاء لهم بالهداية، وأعد الكَرة بعد الكَرة، والمرة تلو المرة.
وإكرامُ ذوي القراباتِ مأمور به، على ألاّ يكونَ في التّقديمِ بخسٌ لأحدٍ أو هضمٌ لآخرين،
قال سبحانه:

(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)
[الأنعام: 152]
ثمار صلة الرحم:
صلةُ الرّحم تدفَع بإذن الله نوائبَ الدّهر، وترفع بأمرِ الله عن المرء البَلايا:
قَالَ جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه أول مره:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى زوجته خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ:
زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي
فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ:
لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ
[رواه البخاري ومسلم عن عائشة]
وعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها:
لقد خلق الله الرحمَ، وشقَقَ لها اسمًا من اسمِه، ووعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها، ومَن وصَله الرحيمُ، وصلَه كلُّ خير، ولم يقطَعه أحد، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ، وعاشَ في كَمَد،
(وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)
[الحج: 18]
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
[متفق عليه]
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ
[مسلم]
صلةِ الرّحم، محبّةُ للأهل، وبَسطُ الرّزق، وبركةُ العُمر:
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي أَثَرِهِ
[رواه أحمد]
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ
[متفق عليه]
صلةُ الرّحم أمارةٌ على كَرَم النّفس، وسَعَةِ الأفُق، وطيبِ المنبَتِ، وحُسن الوَفاء، ولهذا قيل: مَن لم يَصْلُحْ لأهلِه لم يَصْلُحْ لك، ومَن لم يذُبَّ عنهم لم يذبَّ عنك، يُقْدِم عليها أولو التّذكرةِ وأصحابِ البصيرة.
وصلة الرحم مدعاة لرفعه الواصل، وسبب للذكر الجميل، وموجبة لشيوع المحبة، وعزة المتواصلين.
صلة الرحم تقوَي المودَّة، وتزيدُ المحبّة، وتتوثَّق عُرى القرابةِ، وتزول العداوةُ والشّحناء، فيها التعارفُ والتواصلُ والشعور بالسّعادة

واقع معظم المقصرين:
كثير من الناس مضيعون لهذا الحق، مفرطون فيه، فمن الناس من لا يعرف قرابته لا بصلة ولا بمال، ولا بجاه ولا بحال، ولا بخلق ولا بود، تمضي الشهور وربما الأعوام ولا يقوم بزيارتهم، ولا يتودد إليهم لا بصلة ولا بهدية، ولا يدفع عنهم مضرة ولا أذية، بل ربما أساء إليهم، وأغلظ القول لهم.
ومن الناس من لا يشارك أقاربه في أفراحهم، ولا يواسيهم في أتراحهم، ولا يتصدق على فقرائهم، بل تجده يقدم عليهم الأباعد في الصلات والهبات.
ومن الناس من يصل أقاربه إن وصلوه، ويقطعهم إن قطعوه، وهذا في الحقيقة ليس بواصل، وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله، وهو حاصل للقريب وغيره، والواصل حقيقة هو الذي يتقي الله في أقاربه، فيصلهم لله سواء وصلوه أو قطعوه،
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا
[البخاري]
ومن مظاهر القطيعة: أن تجد بعض الناس يحرص على دعوة الأباعد، ويغفل أو يتغافل عن دعوة الأقارب، وهذا مالا ينبغي، فالأقربون أولى بالمعروف قال الله عز وجل:
(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)
[الشعراء:214]
نتائج قطيعة الرحم:
إنّ معاداة الأقاربِ شرّ وبلاء، الرّابح فيها خاسِر، والمنتصِر مهزوم، وقطيعةُ الرّحم مِن كبائر الذّنوب، وقبائح العيوب متوَعَّدٌ صاحبُها باللّعنةِ والثبور، قال تعالى:
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم)
[محمد: 22 ـ 23]
فالتدابرُ بين ذوِي القربَى مؤذِنٌ بزوالِ النِّعمة وسوءِ العاقبةِ وتعجيلِ العقوبة،
قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ
[رواه البخاري ومسلم]
فعقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ ـ أي الظلم ـ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ
[رواه الترمذي]
قطيعة الرحم سببٌ للذِلّة والصّغار، والضّعفِ والتفرّق، مجلَبةٌ للهمّ والغمّ، فقاطعُ الرّحم لا يثبُت على مؤاخاة، ولا يُرجَى منه وفاء، ولا صِدقٌ في الإخاء، يشعر بقطيعةِ الله له، ملاحَقٌ بنظراتِ الاحتِقار، مهما تلقَّى من مظاهِر التبجيل، لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا من الخصام والخلاف والقطيعة
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ
[البخاري]
ويقول ربنا سبحانه وتعالى:
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
[فصلت]
يحذرنا صلى الله عليه وسلم من مصير قاطع الرحم،
قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ
[متفق عليه]
واحذروا أيها المؤمنون من قطيعة الرحم، فإنها سبب للعنة الله وعقابه، يقول الله عز وجل:
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)
[محمد]
ويقول تعالى:
(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)
[الرعد]
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلة الرحم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرق الناس، وأعفهم، وأوصلهم، وأحلمهم، ولذلك ذكر الله خُلُقَه ومناقبه في القرآن، فقال:
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
[القلم:4]
وقال له:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)
[آل عمران:159]
فقد بلغ في صلة الرحم مبلغاً عظيماً، ضرب به المثل على مرِّ التاريخ، فما سمعت الدنيا بأوصل منه صلى الله عليه وسلم، قام قرابته ـ أبناء عمه وأقاربه ـ فأخرجوه من مكة، وطاردوه وشتموه وآذوه، حاربوه في المعارك، ونازلوه في الميدان، وقاموا بحرب عسكرية وإعلامية واقتصادية ضده، فلما انتصر ماذا فعل ؟
دخل مكة منتصرا ً، ووقفت له الأعلام مكبرة، وطنت بذكر نصره الجبال والوهاد، فلما انتصر، وقف عند حلق باب الكعبة صلى الله عليه وسلم منحنياً، وهو يقول للقرابة وللعمومة: ما ترون أني فاعل بكم ؟ فيتصورون الجزاء المر، والقتل الحار، والموت الأحمر، فيقولون وهم يتباكون: أخ كريم، وابن أخ كريم، فتدمع عيناه، ويقول: اذهبوا فأنتم الطلقاء !
[السيرة النبوية]
كأنه يقول: عفا الله عنكم وسامحكم.
ويأتي ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، فيسمع بالانتصار، وقد آذى الرسول عليه الصلاة والسلام، وشتمه وقاتله، فيأخذ هذا الرجل أطفاله، ويخرج من مكة، فيلقاه علي بن أبي طالب، ويقول: يا أبا سفيان ! إلى أين تذهب ؟ قال: أذهب بأطفالي إلى الصحراء فأموت جوعاً وعرياً! والله إن ظفر بي محمد ليقطعني بالسيف إرباً إِرباً ! فيقول علي ـ وهو يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أخطأت يا أبا سفيان ! إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصل الناس، وأبر الناس، وأكرم الناس، فعد إليه، وسلم عليه بالنبوة، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف:

(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ)
[يوسف:91]
فيأتي بأطفاله، ويقف على رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويقول: يا رسول الله! السلام عليك ورحمة الله وبركاته:
(تَا للَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ)
فيبكي عليه الصلاة والسلام، وينسى تلك الأيام، وتلك الأعمال، وتلك الصحف السوداء، ويقول:
(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
ويقول أبو سفيان بن حرب: يا بن أخي، ما أوصلك ؟ ما أرحمك ؟ ما أحكمك ؟ ما أعقلك ؟
فهل من متسم بأخلاقه ؟ وهل من مقتد بأفعاله ؟ فإنه الأسوةُ الحقة، وإن اتباعه نجاة من العار والدمار والنار.
تأتيه أخته من الرضاعة صلى الله عليه وسلم، وقد ابتعدت عنه عقوداً عديدة، فتأتيه وهو لا يعرفها، وهي لا تعرفه، وتسمع وهي في بادية بني سعد في الطائف بانتصاره، فتأتي لتسلم على أخيها من الرضاع، وهو تحت سدرة عليه الصلاة والسلام، والناس بسيوفهم بين يديه، فتستأذن، فيقول لها الصحابة: من أنت ؟ فتقول: أنا أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أنا الشيماء بنت الحارث أرضعتني أنا وإياه حليمة السعدية، فيخبرون الرسول عليه الصلاة والسلام فيتذكر القربى وصلة الرحم، ويقوم لها ليلقاها في الطريق، ويرحب بها ترحيب الأخ لأخته بعد طول غياب، وبعد الوحشة والغربة، ويأتي بها ويجلسها مكانه، ويظللها من الشمس.
تصوروا رسول البشرية، ومعلم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، يظلل هذه العجوز أخته من الرضاع من الشمس، ويترك الناس وشئون الناس، ويقبل عليها ويسألها، ويقول لها: يا أختاه كيف حالكم ؟: يا أختاه اختاري الحياة عندي، أو تريدين أهلك ؟ فتقول: أريد أهلي، فيمتعها بالمال ويعطيها مئة ناقة، ليعلمِّ الناس صلة الأرحام.
يا سيدي، يا رسول الله، يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك !!!
يا سيدي يا رسول الله، نقل عنك في أحاديثك الصحيحة، أنك تقلق أشد القلق، يوم القيامة على أمتك، فتقول أمتي، أمتي، فيقال لك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ؟
يا سيدي يا رسول الله، الذي أحدثوه بعدك أنهم قطعوا أرحامهم، هان أمر الله علينا من بعدك فهنا على الله.

أسباب قطيعة الرحم:
وإذا أنعمنا النظر في أسباب قطيعة الأرحام، وجدنا أن من تلك الأسباب:
1. الجهل بعواقب القطيعة، والجهل بفضائل الصلة، والتفكر في الآثار المترتبة على الصلة، فإن معرفة ثمرات الأشياء، واستحضار حسن عواقبها من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتمثلها، والسعي إليها، وكذلك النظر في عواقب القطيعة، وتأمل ما تجلبه من هم، وغم، وحسرة، وندامة، ونحو ذلك، فهذا مما يعين على اجتنابها، والبعد عنها.
2. ضعف التقوى، والكبر، فبعض الناس إذا نال منصبا ًرفيعاً، أو حاز مكانة عالية، أو كان تاجراً، أو مشهوراً، تكبر على أقاربه، وأنف من زيارتهم والتودد إليهم.ومما يحبب الإنسان لقرابته، ويدنيه منهم تواضعه ولين جانبه
3. الانقطاع الطويل الذي يقود إلى الوحشة، واعتياد القطيعة.
4. العتاب الشديد، فبعض الناس إذا زاره أحد من أقاربه، أمطر عليه وابلاً من التقريع والعتاب على تقصيره في حقه، وإبطائه في المجيء إليه، ومن هنا تحصل النفرة من ذلك الشخص، والهيبة من المجيء إليه. وعلاج ذلك تحمل عتابهم، وحمله على أحسن المحامل، فهذا أدب الفضلاء، ودأب النبلاء ممن تمت مروءتهم، وكملت أخلاقهم، وتناهى سؤددهم، ممن وسعوا الناس بحلمهم، وحسن تربيتهم، وسعة أفقهم، فإذا عاتبهم أحد من الأقارب، وأغلظ عليهم، لتقصيرهم في حقه، لم يثرّبوا عليهم، ولم يجاروه في عتابه بل يتلطفون به، ويحملون عتابه على المحمل الحسن، فيرون أن هذا المعاتب محب لهم، حريص على مجيئهم ويشعرونه بذلك، ويشكرونه، ويعتذرون إليه، حتى تخف حِدَّتُه، وتهدأ ثورته، فبعض الناس يقدر ويحب، ولكنه لا يستطيع التعبير عن ذلك إلا بكثرة اللوم والعتاب، والكرام يحسنون التعامل مع هؤلاء، ولسان حالهم يقول: لو أخطأت في حسن أسلوبك ما أخطأت في حسن نيتك.
5. التكلف الزائد، فهناك من الناس من إذا زاره أقاربه تكلًّف لهم أكثر من اللازم، وخسر الأموال الطائلة، وقد يكون – مع ذلك – قليل ذات اليد، ومن هنا تجد أقاربه يقصرون عن المجيء إليه، خوفاً من إيقاعه في الحرج.
6. وتجد من إذا زاره أقاربه لم يهتم بهم، ولم يصغ لحديثهم، ولا يفرح بمقدمهم، ولا يستقبلهم إلا بكل تثاقل وبرودة، مما يقلل رغبتهم في زيارته.
7. الشح والبخل، فمن الناس من إذا رزقه الله مالاً أو جاهاً تهرب من أقاربه، حتى لا يرهقونه بطلباتهم المتنوعة.وعلاج ذلك بذل المستطاع لهم من الخدمة بالنفس، أو الجاه، أو المال، وأن يدع المنة عليهم، والتعاون على حل مشكلاتهم المادية والاجتماعية والدينية، فإذا ما احتاج أحد من أفراد الأسرة مالاً لزواج، أو نازلة أو غير ذلك، قاموا بدراسة حاله، ورفدوه بما يستحق، فهذا مما يولد المحبة بين الأقارب.
8. تأخير قسمة الميراث، فقد يكون بين الأقارب ميراث لم يقسم، إما تكاسلاً منهم، أو قلة وفاق فيما بينهم، وكلما تأخر قسم الميراث شاعت العداوة، وكثرت المشكلات، وزاد سوء الظن، وحلت القطيعة.
9. الشراكة بين الأقارب، فكثيراً ما يشترك الإخوة أو غيرهم من الأقارب في مشروع أو شركة ما، دون أن يتفقوا على أسس ثابتة، ودون أن تقوم الشراكة على الوضوح والصراحة، بل تقوم على المجاملة، والحياء، وحسن الظن. فإذا زاد الإنتاج، واتسعت دائرة العمل، دب الخلاف، وساد البغي، ونـزغ الشيطان، وحدث سوء الظن خصوصاً إذا كانوا من قليلي التقوى والإيثار، أو كان بعضهم مستبداً برأيه، أو كان أحد الأطراف أكثر جدية من صاحبه، ومن هنا تسوء العلاقة، وتحل الفرقة، وربما وصلت بهم الحال، إلى الخصومات في المحاكم، فيصبحون سبّة لغيرهم.

(وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ)
[ص: 24]
10. الاشتغال بالدنيا، والانشغال بها عن أداء واجباته تجاه أرحامه، لذلك وجب أن تكون لهم اجتماعات دورية شهرية أو نصف شهرية، أو نحو ذلك.
11. والطلاق بين الأقارب إذا لم يكن بإحسان.
12. وبُعد المسافة، والتكاسل عن الزيارة.
13. وقد يكون التقارب في المساكن بين الأقارب مسبباً للقطيعة بسبب ما يكون من التزاحم على الحقوق، وبسبب ما يحدث بين الأولاد من مشكلات قد تنتقل إلى الوالدين
14. قلة التحمل، والصبر على الأقارب.
15. ونسيانهم في الولائم والمناسبات، فقد يفسر هذا النسيان بأنه تجاهل واحتقار، فيقود ذلك الظن إلى الصرم والهجر.

الخطوة العملية:
ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة، وليعفُ وليصفح،
(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)
[الشورى: 4]
وإنّ لحُسنِ الخُلُق تأثيرًا في الصّلة، والزَم جانبَ الأدَب مع ذوي القربَى، فإنّ مَن حَفِظَ لسانَه أراح نفسَه، وللهديّةِ أثرٌ في اجتلابِ المحبّة، وإثباتِ المودّة وإذهابِ الضغائن، وتأليفِ القلوب.
وبشكل مختصر تبدأ صلة الرحم بنوع من الاتصال الهاتفي أو البريدي، ثم الزيارة، ثم تفقد الأحوال المعيشية والاجتماعية، ثم المساعدة بألطف أسلوب، ثم الأخذ بيد القريب، وأهله إلى الله، وحملهم على طاعته، والتقرب إليه، وهذا تاجٌ تتوّج به هذه الصلة، وعندئذ تكون هذه الصلة حققت هدفها الأكبر.
ومن الطرق المجدية أن يسجل أسماء أقاربه، وأرقام هواتفهم، ثم يحفظها عنده، حتى يستحضرهم جميعاً، ويتصل بهم إما مباشرة أو عبر الهاتف، أو غير ذلك.

الإخلاص في صلة الرحم:
يراعي في صلة الأرحام أن تكون الصلة قربة لله، خالصة لوجهه الكريم، وأن تكون تعاوناً على البر والتقوى، ولا يقصد بها حمية الجاهلية.
والحمد الله رب العالمين