عتاب ومغفرة الأساليب القرآنية في عتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم
عتاب ومغفرةالأساليب القرآنية في عتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم
أ. د. مصطفى مسلم
سورة التحريم:
﴿ يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ
أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [التحريم: 1، 2].
يستعمل القرآن الكريم ألطف الألفاظ وأرقها في
معاتبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيما يلي جملة من الأساليب الرقيقة التي
استخدمت في معاتبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فمن ذلك:
أ- في عتابه
بشأن حادثة عبد الله بن أم مكتوم، جاء العتاب في سياق الغيبة لتخفيف وطأة المعاتبة
على نفسه، كما أن في توجيه العتاب المباشر مواجهة تجريح وإزالة لحاجب التقدير
والتكريم، والتدرج من الغيبة إلى الخطاب تهيئة للنفس لاستقبال الموقف.. ولإيهام أن
من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم -
مثله[1].
يقول تعالى: ﴿
عَبَسَ وَتَوَلَّى *
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى *
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى
* أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى *
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى *
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى *
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى *
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى *
وَهُوَ يَخْشَى *
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى *
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ
* فَمَنْ شَاءَ
ذَكَرَهُ *
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *
كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 1- 16].
ب- وكذلك في
عتابه بشأن أخذ الفداء من أسرى بدر، جاء العتاب بصيغة الغيبة أولاً، وبذكر إباحة
ذلك لهم مباشرة ثانيًا، ولم يكتف النص على الإباحة بالأكل من الغنيمة بل وصفه
بالحلال الطيب وختم الآية بالنص على المغفرة والرحمة لئلا يبقى أثر لتحرج النفس وفي
كل ذلك تخفيف من وطأة العتاب وشدته على نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، يقول تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
* لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
*
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 67- 69].
جـ- وفي
معاتبته بعد الإذن للمنافقين بالتخلف يوم العسرة، قدّم لفظ العفو قبل ذكر العتاب
تكريمًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
جل شأنه: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾
[التوبة: 43].
د- وجاء تنبيه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تركه
ذكر المشيئة ﴿ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ في سورة
الكهف بعد أن أجاب عن الأسئلة الموجهة إليه والتي كانت مجال الإرجاء فعندما سألته
قريش بتحريض من اليهود أن يخبرهم عن فتية ذهبوا في الدهر الأول وكان من أمرهم عجب
وأن يخبرهم عن رجل طواف في الآفاق وكان من أمره عجب... قال لهم إيتوني غدًا
وسأخبركم بذلك ولم يستثن فلبث الوحي بضعة عشر يومًا حتى أرجف أهل مكة....
فلم يعاتبه بترك المشيئة
أو تذكيره بها إلا بعد الإجابة عن قصة أهل الكهف وفي نهايتها ذكره بها بقوله تعالى:
﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ
غَدًا *
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ
يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 23- 24].
وهذا منتهى التلطف والتكريم والتنبيه على أمر ينبغي
أن يكون الأمر عليه، ولو نبهه أولاً ثم أجاب على الاستفسارات لتوهم الإعراض عنه،
ولربما لم يزل أثره بفرح الحصول على الإجابة، وفي ذلك إلحاق غم وكمد بقلب رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -. أما إذا جاء الجواب
أولاً وتمت الفرحة والبشارة بالحصول على الجواب، وأثناء الابتهاج سيق التنبيه
بأسلوب لطيف لم يترك العتاب والتنبيه أثرًا يذكر.
هـ- وفي هذه
السورة جاء العتاب لطيفًا رقيقًا في غاية الترفق فقد افتتح العتاب بندائه بوصف
النبوة، وفيه من التشريف والتكريم والتطمين على أن ما يذكر بعد لا يؤثر على مقامه
العالي فهو النبي المكرم.
ولو بدأه بالعتاب فقال ﴿
لِمَ تُحَرِّمُ ﴾، لفرق قلبه عليه الصلاة
والسلام ولترك أثرًا كبيرًا ولو جاء الترفق بعد ذلك، وهذا أسلوب الحبيب الذي لا
يريد إلحاق أي هزة عاطفية في قلب حبيبه مهما كانت الهزة مغلفة بالأساليب الرفيقة
الرقيقة.
ثم يأتي العتاب في صيغة سؤال تلطف ﴿
لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ ومن
الأمور المخففة لآثار العتاب ذكر السبب الدافع لرسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إلى هذا التحريم ﴿
تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ﴾، وبيان أن
هذا السبب غير معتبر في الامتناع والتحريم فالغيرة ليست مما يجب مراعاته بين
الأزواج إذ لم يكن هضم لحقوقهن، فهناك من الأشياء الدافعة للغيرة ينبغي أن لا يؤبه
لها. وعذر النبي - صلى الله عليه وسلم - في
فعله هو جلب رضى الأزواج، وهذا من حسن معاشرته عليه الصلاة والسلام معهن، لكن
الغيرة التي نشأت بينهن إنما هي معاكسة بعضهن بعضًا، وهذا مما يخل بحسن العشرة
بينهن، فأخبره الله أن اجتهاده هذا غير معتبر وعاتبه على ذلك.
ثم أزال آثار هذا العتاب عن نفس رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بتذييل الآية بذكر المغفرة
والرحمة فعتاب الله لرسوله دليل على مزيد العناية والاهتمام به، والله ساتر لما
أوجب المعاتبة رحيم يدفع المؤاخذة. ثم أصبح الحكم عامًا فيمن حلف، فرض الله له تحلة
اليمين، وتحلة اليمين ذكرت بالتفاصيل في سورة المائدة: ﴿
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ
﴾ [المائدة: 89].
ففي كل ذلك إزالة لآثار ما قد يعلق في النفس من
كدورة بسبب العتاب. ولله في كتابه أسرار وعبر.
و- وهناك نوع
آخر من العتاب الشديد الموجه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة
ويختلف في الأسلوب عن الألوان السابقة في العتاب وذاك في قوله تعالى: ﴿
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا
يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا
مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً
* مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ
فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا *
الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا
اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 37-
39].
هذا الأسلوب في العتاب يختلف في الشدة والعنف عن
الأساليب السابقة، وذلك لأنه يتعلق بأمر تبليغ أحكام الله ﴿وَتُخْفِي
فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَاهُ ﴾.
ولذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "لو
كتم محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئًا مما
أوحي إليه من كتاب الله شيئًا لكتم ﴿ وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَاهُ ﴾[2].
ونظرًا لخطورة قضية التبليغ وما يتعلق بها فقد أعقبت
الآية الشديدة بآية أخرى فيها تعليل ودفاع عن موقف رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - من إخفاء قضية زواجه بزينب بعد طلاق زيد
لها، فإنه كان مأمورًا من الله تعالى بأن يزوّج زينب من زيد بن حارثة، وقد أعلمه
الله أنه سيتم الطلاق وستكون زينب زوجًا له - صلى الله عليه وسلم -
وذلك قبل اقتران زيد بها. وذلك لإبطال عادة التبنّي التي ما كانت لتنتهي بسهولة من
المجتمع لولا هذه الهزة العنيفة بتطبيقها عمليًا في حياة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -.
فجاء قوله تعالى: ﴿ مَا
كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ
فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا
﴾.
فالرسول في ذلك يطبق أمر الله، وسنة الله في
الأنبياء والمرسلين أن يكونوا أول من يلتزم بشرائع الله وأحكامه ويطبقونها على
أنفسهم وعلى من تحت ولايتهم، كما تأتي الآية اللاحقة لتبين دور الرسل وأنه الالتزام
والتبليغ ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ
وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ
حَسِيبًا ﴾.
وهو في نفس الوقت تبرير وتوضيح وتعليل فيكون بتقديم
الآية التي نصت على قضاء الله سبحانه وتعالى وقضاء رسوله الذي ينفي الخيرة للمؤمنين
والمؤمنات وتعقيب الآيات المبينة لسنة الله في الرسالات وبيان مهمتهم في التبليغ،
يكون في كل ذلك تبرير وتعليل لما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
من إخفاء الأمر في نفسه وخشية الناس وكلامهم أن يقولوا إن محمدًا تزوج بزوج متبناه.
ومع كل ذلك فإن آثار هذا العتاب كان باديًا على تصرف
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتطبيقه
لأمر الله سبحانه وتعالى فما أن طرق سمعه قوله تعالى: ﴿
.. فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا
زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ
أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
مَفْعُولاً ﴾ حتى سارع إلى الزواج بزينب ولم ينتظر جوابها.
روى الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال:
"لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة
(اذهب فاذكرها علي) فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في
صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت: يا زينب
أبشري أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يذكرك، قالت ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي عز وجل فقامت إلى مسجدها ونزل
القرآن وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فدخل عليها بغير إذن"[3]
الحديث.
يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿
فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا
زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ وكان الذي تولى تزويجها منه هو الله عز وجل بمعنى أنه
أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر[4].
إن الأساليب القرآنية في بيان الهدايات والتشريعات
تتنوع حسب مقتضيات المواقف وإحداث الأثر في نفوس المخاطبين وهذا التنوع جزء من
الإعجاز البياني للقرآن الكريم.
دروس وعبر:
من الدروس المستفادة من إقدام رسول الله على
الامتناع عن شرب العسل وقسمه على ذلك الذي سماه الله سبحانه وتعالى ﴿
تَحْرِيمًَا ﴾ أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كان شفيقًا رؤفًا رحيمًا بكل الناس
وبخاصة بأهل بيته وكان يحرص على سعادتهم وتطييب خواطرهم بكل الوسائل ما لم يكن هناك
محظور شرعي ولما كانت القضية هنا تتعلق بأمر خاص برسول الله وميله إلى نوع من
الشراب والامتناع منه لا يلحق ضررًا بأحد، فكان أن أقدم على هذا التحريم (الامتناع)
تطييبًا لما لحق نفوس بعض أزواجه من الغيرة.
إلا أن الموازين الربانية في غاية الدقة والحساسية
وخاصة في أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وذلك للأسباب التالية:
أ- إن أقوال
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله
وتقريراته تشريع للأمة فلو ترك هذا الأمر لأصبح تشريعًا للأمة من بعده، ولصار الناس
يمتنعون عن المباحات أو يحرمونها على أنفسهم ابتغاء مرضاة بعضهم بعضًا، بل لاعتقد
الناس أن ذاك تشريع يتعبدون الله به. فكان لابد من التوضيح والبيان وبيان المنهج في
ذلك.
ب- إن مقام
النبوة مقام عظيم، ولئن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لشدة تواضعه وشفقته على الأمة عامة وعلى أهل بيته خاصة لا يبرز ذلك ولا يقف عنده
فإن الله سبحانه وتعالى في أكثر من مقام لفت أنظار المسلمين إلى ذلك وطلب منهم
التأدب مع رسول الله ومراعاة مكانته، كما في قوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا
تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].
فالجرأة على مقام النبوة وعدم التأدب قد يكون سببًا
في حبوط العمل وكما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المجادلة: 12].
ولئن كان تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول قد نسخ
بالآية التي بعدها إلا أن بقاء تلاوتها في المصاحف يترك أثرًا تربويًا لما ينبغي أن
يكون عليه الأمر فلا يقدم أحد على مناجاته إلا لأمر لا بد منه.
وكما في قوله تعالى: ﴿
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا...
﴾ [النور: 63].
فلا ينادى باسمه المجرد يا محمد أو يا أبا القاسم،
وإنما ينادى يا رسول الله يا نبي الله. وكثيرًا ما كان صحابته الأجلاء يفدونه
بآبائهم وأمهاتهم قبل النطق بلقب الرسالة فيقولون فداك أبي وأمي يا رسول الله...
وكما في قوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ... إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ
الْحَقِّ... ﴾ [الأحزاب: 53].
حيث كان بعض الصحابة يجلس في بيت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - مستأنسًا بحديث رسول الله في
وقت راحته، فجاء الأدب الرباني لهم.
والأمثلة كثيرة على تعليم الله سبحانه وتعالى للأمة
لهذه الآداب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ومنها هذا الموضع الذي نحن بصدده فلئن كانت العشرة قد أزالت الحجب والحرج من النفوس
فلا ينبغي أن تتجاوز حدود توقير مقام النبوة. لذا كان التنبيه شديدًا والوعيد
مزلزلاً لأمهات المؤمنين كما سيأتي، عندما مالت قلوبهن إلى ما يكرهه رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -. وعندما شعرن أنهن
ظفرن بمكسب لمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
من شرب العسل في بيت زينب بنت جحش وكان يسرّ بذلك ويستأنس به.
جـ- إن
الإسلام قد أعطى الكلمة وزنًا وثقلاً، فكل كلمة يتفوه بها الإنسان ينبغي أن يعرف
مكانها وما يترتب عليها.
ومن خلال حادثة التحريم، وقد قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قولاً لتطييب نفس بعض زوجاته
ثم جاء التوجيه الرباني بالرجوع عن تلك الكلمة، فلا بد أن يكون الرجوع وفق أحكام
الشرع الشريف أيضًا.
وسواء كانت مقالة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - خرجت على صيغة اليمين كما تدل بعض الروايات[5]
أو خرجت على صيغة التأكيد فحسب، فقد شرع الله لهذه الأمة طريق العودة إلى ما هو
الأفضل. ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً
لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224].
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من حلف على شيء ثم رأى خيرًا منه فليكفر عن
يمينه وليأت الذي هو خير"[6].
هكذا التربية الربانية للنفس المؤمنة رغبة في الخير
وميل مع الحق حيث مال، فهوى النفس تبع للحق وللخير. وتخلق بالتوجيه النبوي الكريم
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به.
فلا غرابة أن نجد النبي - صلى الله عليه وسلم
- يكفر عن يمينه ويعمل ما كان قد حرم نفسه منه.
ليعطي القدوة في المسارعة إلى رضوان الله سبحانه وتعالى والالتزام بشرائعه وتطبيق
توجيهاته.
د- وقبل تجاوز
الحديث عن الافتتاحية لا بد من التعرض لقضيتين: قضية اجتهاد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وقضية العتاب على هذا الاجتهاد.
أما قضية اجتهاد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فيما لا نص فيه فأمر مسلّم به عند جمهور
العلماء ثم يأتي الوحي فيسدّد إن كان هناك مجال للتسديد وإلا فسكوت الوحي عنه إقرار
وتصويب، وعلى المؤمنين الأخذ به ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7] وفي
هذه الواقعة كان اجتهاد بالامتناع عن مباح حلال جائز، ولا نقول كما ذهب بعض
المفسرين إلى أنه حرّم ما أحلّ الله.
يقول الشيخ زاده في حاشيته على البيضاوي:
فإن قيل: ما
وجه تحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
قلنا المراد بهذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع به مع اعتقاد كونه حلالاً له،
لاعتقاد كونه حرامًا بعدما أحله الله تعالى... ولكنه يجوز أن يعد ذلك زلة يعاتب
عليها لأن الامتناع عن الانتفاع بإحسان المولى الكريم يشبه رد قبول إحسانه ففيه
شائبة سوء الأدب، فلذلك عاتبه الله على ذلك بالاستفهام الإنكاري ﴿
لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾[7].
أقول مما يؤكد أن التحريم بمعنى الامتناع الشخصي عن
تناول المباح وجود كلمة (لك) وبما أن حياة
الأنبياء الخاصة والعامة منها يستمد التشريع للأمة فكان المتوقع أن يسرى هذا
التحريم إلى الأمة ويكون تشريعًا لها لو لم ينزل الوحي بالبيان والتوضيح. وقد كان
مثيل هذا في بني إسرائيل عندما حرم يعقوب عليه السلام على نفسه أكل لحوم الإبل
وألبانها لمرض عرق النسا فيه، وكان امتناعه عن أكلها تطبيبًا لا تشريعًا، حرمت بنو
إسرائيل لحومها على نفسها تشريعًا وديانة قال الله تعالى: ﴿
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
﴾ [آل عمران: 93] وبما أن شرائع هذه الأمة مبنية على التيسير والسهولة
وإزالة الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة. فلا غرو أن نجد الأمر الإلهي
لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالعدول عن
اجتهاده، والتكفير عن يمينه والاستمتاع بما أحله الله له.
والأمر الثاني:
هل يستحق هذا الاجتهاد في الامتناع عن المباح هذا العتاب، وما الأمر المستوجب لهذا
العتاب؟.
من خلال ما تقدم نستطيع أن نجمل دواعي العتاب فيما
يلي:
أ- إن
الامتناع عن الانتفاع بإحسان الكريم يشبه رد إحسانه وهذا إن كان يتجاوز عنه في حق
عامة الناس، أما في حق الصفوة من عباد الله فلا يمر دون التنبيه والعتاب.
ب- إن الأمر
وإن كان خاصا ًبرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فان احتمال سريان هذا الامتناع والتحريم إلى الأمة قائم. وهذا يتنافى مع ما بني
عليه أمر التشريع لهذه الأمة من اليسر والسهولة وإباحة الطيبات وتحريم الخبائث.
جـ- إن الغرض
الذي كان بسببه الامتناع لم يكن غرضًا معتبرًا فلو كانت هنالك مصلحة عامة أو خاصة
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكان لها
الاعتبار في هذا الاجتهاد، أما أن يكون الدافع إرضاء رغبة الزوجات المبنية على
الغيرة بين الضرائر، ثم يجعل ذلك دافعًا للامتناع عن الحلال فلا يعتد به.
لذا نحن نرجح أن العتاب انصب على القيد ﴿
تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ﴾ فلو كان
الامتناع لمجرد إعفاء النفس وعدم الرغبة الذاتية في الشيء لما وجدت دواعي العتاب،
أما أن تكون النفس تستسيغ الشيء وتشتهيه وليس من داعٍ للامتناع سوى مرضاة الأزواج،
ولم يبنين رغبتهن على مصلحة معتبرة، بل مطلق الحسد من ضرائرهن، فهذا لا ينبغي أن
يراعى في مبررات الامتناع.
[1] روح المعاني للآلوسي (30/ 39).
[2] انظر الحديث في مسند الإمام أحمد (3/195).
[3] انظر صحيح مسلم كتاب النكاح (4/148).
[4] انظر تفسير ابن كثير (3/491).
[5] جاء في رواية عن الشعبي قال: حلف النبي - صلى الله عليه
وسلم - بيمين مع التحريم فعاتبه الله في
التحريم وجعل له كفارة اليمين. انظر الرواية في تفسير عبد الرزاق الصنعاني
(2/301) ونسبه الماوردي إلى الحسن وقتادة. انظر تفسير الماوردي (4/261)
تحقيق خضر محمد خضر الكويت.
[6] صحيح مسلم، كتاب الأيمان
(5/85)، وقريب منها رواية البخاري في
كتاب الأيمان والنذور (7/217).
[7] حاشية زاده على البيضاوي (4/510) ط المكتبة الإسلامية-
ديار بكر- تركيا.
|
0 التعليقات: