سيدنا أبو بكر الصديق
ورعه وحكمته في الخلافة
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
|
الحمد
لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين,
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما
ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا
اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون
القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
خطبة
الخلافة التي نستنبط منها العبر والحكم :
انظر إلى تواضعه على
الرغم من سمو مكانته بين المهاجرين والأنصار :
أيها الأخوة, مع الدرس الرابع من سيرة سيدنا
الصديق رضي الله عنه، والموضوع اليوم: أن هذا الصحابي الجليل الذي صار
خليفة المسلمين ألقى خطبة يسميها بعض المؤرخين "خطبة الخلافة ", فلو
دققنا في كلمات هذه الخطبة لوجدنا أنه قرر فيها مبادئ تبهر العقل،
وتأخذ بالألباب، فأول كلمة قالها: " أيها الناس، فإني وليت عليكم و لست
بخيركم" انطلق مِن أنه واحد من المسلمين، ليس فوق المسلمين بل هو واحد
منهم، انطلق من أن الخلافة ليست تشريفاً ولكنها تكليفاً، ليس الخليفة
أفضل من أي مسلم, ولكنه أثقل المسلمين حملاً، من هنا انطلق، والمؤمن
هكذا أيها الأخوة، المؤمن أَدبه ربه، حينما سئل عليه الصلاة و السلام
عن هذا الأدب الرفيع الذي يتحلّى به، فقال عليه الصلاة و السلام:
"أدبني ربي فأحسن
تأديبي ".
( ورد في الأثر)
ينبغي على
الإنسان الذي رزقه الله حظاً في الدنيا ألا يستعلي عمن دونه :
أيها
الأخوة, الإنسان حينما يرتفع شأنه، قد يرتفع بماله، وقد يرتفع بقوته،
وقد يرتفع بحسبه، وقد يرتفع بعلمه، وقد يرتفع بذكائه، سيدنا الصديق من
هؤلاء القلة المعدودين على أصابع اليد، حينما أصبحوا في قمة المجتمع
الإسلامي ما تغيروا، ولا تبدلوا، ولا رأوا أنفسهم فوق المجتمع، فلذلك
هذه الخطبة تعني أنّ كل إنسان إذا كان لا شأن له، أو من عامة الناس، أو
في الدرجات الدنيا في المجتمع، فقد يكون متواضعاً، لأنه فعلاً من درجة
دنيا، فأنى له أن يتكبر، لكن حينما يصعد الإنسان, هل يبقى ثابتًا على
عبوديته لله عز وجل؟ أم هل يبدل هذا المنصب أخلاقَه؟ وهل يجعله يقسو
على أعدائه؟ وهل يجعله يتيه على عباد الله؟
" أيّها الناس وُلِّيتُ عليكم، ولستُ بخيركم"
ولذلك فالمؤمن ينطلق من أنه واحد من الناس، إذا انطلقت من أنك واحد من
الناس أحبك الناس، التفوا حولك، وأقبلوا عليك، أما إذا انطلقت مِن أنك
فوقهم، فأنت شيء عظيم، وهم لا شيء انفضوا من حولك، " أيها الناس وليت
عليكم و لست بخيركم" وأنتم أيها الناس لكم دور، هو دور إيجابي مع
الخليفة .
أشار إلى
قبول النصح والتوجيه والنقد لما فيه صلاح أمور الأمة :
قال:
" إن أحسنت فأعينوني، و إن أسأت فقوموني" ما أروعها من كلمة لو طبقها
المسلمون فيما بينهم، لك أخ تفوق، تحسده وتتمنى أن تزول هذه النعمة
عنه، فهذا هو النفاق، لكن لك أخ تفوق، فإن كان على حق فعليك أن تدعمه،
وإن كان على باطل فعليك أن تنصحه ، وليس هناك حل ثالث، أخوك، أستاذك،
أي إنسان، إن كان على حق فعليك أن تعينه، وإن زلت قدمه، أو ضل رأيه
فعليك أن تنصحه، وفي الحالتين لا ينبغي أن تعاديه، بهذه الطريقة ينمو
المجتمع الإسلامي، و يقوى، ولا يتفتت .
الإنسان حينما يضعف إيمانُه بدل النصيحة
يفضح، وبدل أن ينصح يشهر به، و بدل أن يعينه يحسده، فالحسد و الفضيحة
هما من لوازم المنافقين، لكن المؤمن بين حالتين، معين أو ناصح، قال: "
أما أنتم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني" و كل إنسان ولاه الله
منصبًا, ينبغي أن يفهم من حوله أن النصيحة أمانة، وأن ترك النصيحة
خيانة للأمانة، أن المعاونة أمانة, و أن ترك المعاونة خيانة، هكذا
المجتمع المسلم، البديل عند المنافقين, الحسد إذا أحسن, و الفضيحة إذا
أساء، هذا مجتمع المنافقين، " إن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوموني " .
انظر إلى
مبدأ العدالة والمساواة
ثم
تناول رضي الله عنه القيم الثابتة ليؤكد أنها المبادئ التي يتبناها،
فقال:" ألا إن الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له " بمجتمع الغاب
الذي ينتصر هو القوي، بمجتمع الحق الذي ينتصر هو صاحب الحق، قيم نفسه،
وكلف مَن حوله بمهماتهم، ثم بين أن هذا المجتمع تسوده قيم ثابتة، تسوده
نظم جاء بها عليه الصلاة والسلام، " لكن جبلة بن الأيهم ملك الغساسنة
طاف حول الكعبة، وكان قد قدِم إلى مكة مسلمًا، وطاف إلى جانبه بدوي من
فزارة، فداس البدوي طرف إزاره، فخلع الإزار عن كتفه، فالتفت إلى هذا
البدوي، وضربه ضربة هشمت أنفه، جاء البدوي إلى عمر بن الخطاب يشكو جبلة
الملك، فسأله: هل صحيح ما ادّعى هذا الفزاري الجريح؟ قال بعنجهية
واستعلاء و كبر: لست ممن ينكر شيئًا، أنا أدبت الفتى، وأدركت حقي بيدي،
قال له: أرضِ الفتى، لا بد من إرضائه، فما زال ظفرك عالق بدمائه، أو
ليهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك، قال: كيف ذلك يا أمير, هو سوقة
من عامة الناس، وأنا عرش وتاج؟ كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً؟ قال:
نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً،
وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً، قال جبلة: كان وهماً ما جرى في
خلدي أنني عندك أقوى و أعز، أنا مرتد إذا أكرهتني، قال له: عنق المرتد
بالسيف تحز، عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوَى، وأعز الناس
بالعبد بالصعلوك تساوى " .
إن خطبة الخلافة لتُكتَب فيها مجلدات، كلمات
قليلة يمكن إلقاؤها في خمس دقائق، لكنه أعطى كل شيء حقه،
" وليت عليكم ولست
بخيركم" ، " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"
( ورد في الأثر)
هذه
الخطوط التي يتمايز بها الناس في المجتمعات غير المؤمنة، حظ المال، وحظ
العلم العصري، وحظ القوة، والمنصب، والجاه، والوسامة والذكاء، هذه لا
شأن لها إطلاقاً في مجتمع المسلمين، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وانتهى
الأمر.
" سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لما رأى بلالا
يعذب، وبلال يومئذ عبد، وسيدنا الصديق كما نعلم في قمة المجتمع من
أشراف قريش، كان غنياً شريفاً حسيباً نسيباً، مّر عليه وهو يعذب مِن
قِبَل سيده، فنهاه الصديق، قال له أمية بن خلف: إذا شئت فاشترهِ، فقال
له الصدِّيق : بكم تبيعه، وبعد أن تساوما اشتراه، قال: والله لو دفعتَ
به درهماً لبعتكه، فقال الصديق: واللهِ لو طلبتَ مئة ألف لأعطيتكها،
فلما دفع ثمنه، وأخذه من بين يدي سيده، وضع يده تحت إبطه، وقال: هذا
أخي حقًّا " الناس يسمون هذا الخطاب في زماننا هذا خطابَ العرش، يعني
الملك يلقي خطاب العرش يبيِّن فيه مبادئ التعامل مع الرعية .
قال الصدِّيقُ: " أيّها الناس, إني
وليت عليكم ولست بخيركم, إن أسأت فقوموني، ألا أن الضعيف فيكم قوي عندي
حتى آخذ الحق له ألا وإن القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه،
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله, فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى
صلاتكم يرحمكم الله " .
من لوازم الإيمان
النصح والتعاون ومن لوازم النفاق الحسد والتشهير :
أنت
إذا كنت رئيس دائرة، عندك ثلاثة موظفين، إن انطلقت من أنك إنسان مهيمن
عليهم، وأنك أعلى منهم، وتحكّم فيهم، وتبتغي أن يتذللوا لك، فأنت جاهلي
وعنصري، بل أنت واحد منهم، وأنت في خدمتهم، الله فوق الجميع سيراقبك
وسيحاسبك، سيعاملك كما تعاملهم، " البر لا يبلى، والذنب لا ينسى،
والديّان لا يموت" أنت مع أخيك، مع صديقك، مع قريبك، فإن ارتفع قريبك
تقول: لا بد من معاداته وتحقيره، إن كنت كذلك, فأنت جاهلي وعنصري
ومنافق، لكنْ عليك أن تصدع بالحق وتساعدْه، وإنْ أخطأ فانصحه وأرشده،
واجعلوا هذا مبدأ لكم، المنافق على العكس من ذلك، إن صدع بالحق يحسده،
وإن غلط يفضحه، قال عليه الصلاة و السلام:
" اللهم إني أعوذ بك
من جار سوء، إن رأى خيراً كتم, و إن رأى شراً أذاعه، اللهم إني أعوذ بك
من إمام سوء إن أحسنت لم يقبل, و إن أسأت لم يغفر " .
( ورد في الأثر)
وطن نفسك على الحق والصواب، والله عز وجل
حينما يراك تعين أخوانك، ولا تستعلي عليهم، وتأخذ بيدهم، أحبَّك ونصرك
ووفّقك، أما إذا رأى ربنا عز وجل أن عباده متحاسدين متباغضين كان عليهم
لا لهم، ولذلك جاء الدعاء القرآني:
﴿وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ
فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ﴾
(سورة الحشر الآية :
10)
و
قوله تعالى :
﴿وَنَزَعْنَا مَا
فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾
( سورة الحجر الآية
: 47)
محبتك
لأخوانك دليل إيمانك، معاونتك لهم دليل إيمانك، فأن تنصحهم نصيحة مخلصة
بينك وبينهم هذا دليل إيمانك، لذلك ما من آية في كتاب الله يتوعد الله
فيها إنساناً على شيء لم يترجم بكلمة, ولا بحركة, ولا بغمز, ولا بلمز,
إلا أنه:
﴿إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة النور الآية
: 19)
ماذا
فعل؟ لم يفعل شيئًا، إلا أنه تمنى أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وضع
نفسه في خندق المنافقين .
الصديق لم
تكن في نفسه الولاية لكن قدر فكان :
فهذا
الصحابي الجليل قال: " والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً, ولا
ليلة، ولا سألتها الله لا في سر، ولا في علانية " والنبي عليه الصلاة
والسلام, يقول:
" طالب الولاية لا
يولَّى " .
( ورد في الأثر)
في
بعض البلاد الديمقراطية يدفع المرشح أحياناً مئة مليون دولار حتى يرشح،
إذاً: هو طالب ولاية، وطالب الولاية لا يولى، قال: " والله ما كنت
حريصاً على الولاية يوماً، ولا ليلة، ولا سألتها الله لا في سر، ولا في
علانية " .
ذات يوم دخل عليه عمر ليزوره، فوجده يبكي،
وما كاد عمر يبصر أمامه, الصديق يبكي حتى تشبث به, وكأنه زورق نجاة،
قال له: " يا عمر, لا حاجة لي في إمارتكم، لقد عُلِّقتْ بي تعليقاً،
وأُرغِمتُ عليها ".
أخواننا الكرام, أرجو أنْ تصدقوني فيما أقول
فهو كلام دقيق، المؤمن إذا وصل إلى الله فهو حقًّا سعيد، وهذه السعادة
التي عاشها بعد أن وصل إلى الله لا تقدر بأثمان مهما بلغت ، فسيدنا
الصديق اطمأنت نفسه لمعرفة الله، والإقبال عليه، فهذه الخلافة لا تقدم
ولا تؤخر .
" ذات مرة طلب رجل حاجة من سيدنا الصديق،
فأراد الصديق أن يأخذ رأي عمر وكان قاضياً، قال للرجل: اذهب إلى عمر،
سيدنا عمر رفض الموضوع كلياً, و بت فيه بشكل نهائي، فوقع هذا الشخص في
حيرة، وعندما جاء الصديق, قال له: أأنت الخليفة أم هو ؟ قال: هو إذا
شاء، لا فرق بيننا، لكن عمر رضي الله عنه, قال: إلى أين المفر؟ والله
لا نقيلك، ولا نستقيلك، أنت أرحمنا، وأنت أعلمنا, و أنت أقربنا، وأنت
أفضلنا، والله لا نقيلك ولا نستقيلك " .
انظر إلى ولاء
الصديق للحق :
تروي
كتب السيرة أن السيدة فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والعباس عم رسول الله عليه الصلاة والسلام ذهبا إليه، إلى سيدنا
الصديق، يسألانه حقهما في قطعة أرض صغيرة، كان النبي صلى الله عليه و
سلم قد أصابها في بعض الفيء, وكان عليه الصلاة و السلام يعطي السيدة
فاطمة, و بعض أهله جزءاً من نتاجها ثم يقسم الباقي بين فقراء الصحابة ،
فقال لها وللعباس: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ, يَقُولُ:
" إِنَّا مَعْشَرَ
الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَؤونَةِ عَامِلِي
وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ " .
(أخرجهما البخاري
ومسلم في الصحيح )
وإني
والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام يصنعه إلا
صنعته، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ, فالولاء للحق أم
للأشخاص؟ إن كان للأشخاص فهذه ابنة رسول الله عليه الصلاة والسلام أحب
الناس إليه على الإطلاق، تريد أخذَ بعض ريعها، أما إذا كان الولاء
للحق، فالحق الذي جاء به النبي يؤكد أن النبي لا يورث، ولكن من أجل أن
يطمئنها وأن يقنعها، وأن يجعلها ترتاح لهذا التوجيه، جمع كبار الصحابة،
أي طلب عمر رضي الله عنه وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن
بن عوف، وسألهم أمامها ناشدتكم الله، ألم تعلموا أن رسول الله عليه
الصلاة والسلام, قال:
" إِنَّا مَعْشَرَ
الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَؤونَةِ عَامِلِي
وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ " .
(أخرجهما البخاري
ومسلم في الصحيح)
فقدْ
ظن لعلها لم تسمع كلام أبيها، فجاءت تطلب حقها، سمعت تواتراً، سيدنا
عمر، وسيدنا طلحة، وسيدنا الزبير، وسيدنا سعد، وسيدنا ابن عوف، سألهم
أمامها وأقروا أنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول،
قالت: إنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهبها لي في حياته،
فهي لي بحق الهبة لا بحق الإرث, فقال أبو بكر: أجل أعلم، لكني رأيته
يقسمها بين الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يعطيكم منها ما
يكفيكم، فقد أراد أن يكون فيها حق دائم للفقراء، فهي وقف، ثم جاءت بحجة
ثالثة، قالت فاطمة رضي الله عنها: دعها في أيدينا, ونحن نجري فيها على
ما كانت تجري عليه وهي في يد رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أبو
بكر: لست أرى ذلك فأنا أمير المؤمنين من بعد رسولهم, وأنا أحق بذلك
منكما أضعها في الموقع الذي كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يضعها
فيه .
هذه القصة مفادها أن الولاء لله وحده، وأن
الولاء للحق الذي جاء به النبي، وأن الولاء لهذه الشريعة السمحاء، وأن
النبي صلى الله عليه وسلم مشرع، فإذا قال: كذا وكذا فكلامه شرع، ومع أن
الصديق عليه رضوان الله كان في أعلى درجات الحب لرسول الله عليه الصلاة
والسلام لكن يبقى الولاء لله عز وجل، هكذا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّا مَعْشَرَ
الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مؤونَةِ عَامِلِي
وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ " .
(أخرجهما البخاري
ومسلم في الصحيح)
الموقف
الثاني الذي يدل على ولائه :
أيها
الأخوة, له موقف لا يصدق، لشدة ولائه للحق، سيدنا الصديق كان خليفة
المسلمين ، وأرسل سيدنا أسامة بن زيد قائداً لا تزيد سنه عن سبعة عشر
عاماً، وهذا الجيش الذي يقوده أسامة بن زيد فيه جنود كسيدنا عمر،
وسيدنا عثمان، وسيدنا علي، هؤلاء كبار الصحابة، العمالقة، القمم، خرج
الصديق يودع أسامة بن زيد، وكان بين جنود هذا الجيش عمر بن الخطاب،
وكان أبو بكر حريصًا على أن يبقى عمر بجواره، ولقد كان يستطيع كخليفة
للمسلمين أن يستبقيه بقرار ينفرد بإصداره، ولكنه يعلم أن في هذا التصرف
افتئاتاً على موظف مسؤول يجب أن توفر له الضمانات التي تمكنه من أداء
واجبه، و أولى هذه الضمانات: ألا تنتقص هيبته و سلطته، فماذا فعل؟
اقترب الخليفة العظيم سيدنا الصديق من قائد الجيش أسامة, و قال له في
همس و رجاء: إذا رأيت أن تترك لي عمر بن الخطاب فإني أجد في بقائه معي
خيراً و نفعاً، هذا درس بليغ، مستشفى لها مدير, و هناك أطباء, و أنت
أعلى من مدير المستشفى فلا ينبغي أن تطلب طبيبًا مباشرة، بل لا بد أن
تستأذن مدير المستشفى، أنت مدير تربية، وهناك مدير ثانوية، وهذا المدرس
عند هذا المدير، وأنت بحاجة لهذا المدرس فلا ينبغي أن تقول له تعال إلي،
هناك مدير يجب أن تستأذن مديره، هناك تسلسل، تعبير إداري لا بد من
مراعاة التسلسل .
يقول كتاب السيرة: إن أبا بكر لم يفعل ذلك
مجاملة و لا تواضعاً، إنما فعله واجباً.
زهده وورعه
:
سيدنا
الصديق تسلم منصب الخلافة, و في أول يوم من خلافته يضع على كتفيه لفافة
كبيرة من الثياب ليبيعها في السوق، ما هذا؟ رآه عمر رضي الله عنه و أبو
عبيدة فوقفا يسألانه: إلى أين يا خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟
قال: إلى السوق، قالا: لماذا و قد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين
أطعم أولادي؟ قال عمر: انطلق معنا نفرض لك شيئاً من بيت المال، تعويض
تفرغ، صحبهما الخليفة إلى المسجد حيث نودي أصحاب رسول الله عليه الصلاة
والسلام، وعرض عليهم عمر رأيه في أن يفرض للخليفة بدل تفرغ، أنت خليفة
ومكلف برعاية شؤون المسلمين, فهل من المعقول أن تبيع أقمشة بالطريق من
أجل أن تأكل أنت و أولادك؟ صدقوني ليس هذا تمثيل وإنما هذه حقيقة .
كان لهذا الصحابي الجليل, غلام جاءه بطعام
فأكل منه، ولما فرغ من أكله, قال له الغلام: أتدري ما هذا يا خليفة
رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال أبو بكر: ما هذا؟ قال: إني كنت قد
تكهنت لرجل في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته! وقد لقيني
اليوم فأعطاني مالاً، فهذا الذي أكلت منه من هذا المال، قال: فأدخل
الصديق يده في فمه حتى قاء كل شيء في جوفه، ويضيف صاحب كتاب الصفوة أنه
قيل لأبي بكر رضي الله عنه: يرحمك الله أكل هذا من أجل لقمة واحدة؟
فقال: و اللهِ لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها .
" أن النبي صلى الله
عليه وسلم وجد تمرة تحت جنبه من الليل فأكلها فلم ينم تلك الليلة فقال
بعض نسائه: يا رسول الله أرقت البارحة؟ قال: إني وجدت [ تحت جنبي ]
تمرة فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن تكون منه "
( أخرجه أحمد في
مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص)
قال
تعالى:
﴿فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾
( سورة مريم الآية :
59)
هنا
مسألة مهمة جداً, هل هذا حكم شرعي أم موقف شخصي؟ هذا موقف شخصي، أي إذا
أكل الإنسان طعاماً، ثم عرف بعد ذلك أن الطعام فيه شبهة، فهل هو مكلف
أن يغسل معدته؟ هذا ورع من سيدنا الصديق، وموقف شخصي، وليس حكماً
شرعياً .
سيدنا عمر, كان يقول دائماً: يرحم الله أبا
بكر، لقد أتعب الذين جاؤوا بعده، أتعبهم كثيراً، بعد أن جاءه الفيء من
الفتوح, ردّ كل المال الذي أخذه إلى بيت مال المسلمين, وقال لها: انظري
ما زاد في مال أبي بكر منذ أن ولي هذا الأمر فرديه على المسلمين، أوصى
ابنته، أي شيء أخذته من بيت المال رديه عليه بعد أن أغناني الله تعالى
من الفيء والغنائم .
نموذج فريد :
هذه
نماذج من مواقف هذا الصحابي الجليل الذي كان قمة في الورع، وبعد الفهم
و الشجاعة، وفي حسن سياسة الأمور، فقد كان بحق, كما يقولون: المجدد
الثاني للدولة الإسلامية بعد أن خرج الناس من دين الله أفواجاً عقب
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أنْ دخلوه أفواجاً .
0 التعليقات: