الإمام الشافعي
الإمام الشافعي
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة
والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا
ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا
بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا
الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول
فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات
الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات
القربات .
من مناقب الإمام الشافعي :
1- شدة تأثر الناس به :
أيها الأخوة الكرام، بدأنا في الدرس
الماضي الحديثَ عن مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى،
وقد استخلصنا من مناقب هذا الإمام الكبير أحد أكبر أعلام الفقه: أن
العلم والعمل صنوان لا يفترقان، وننتقل اليوم إلى الإمام الشافعي،
ومحور الدرس مناقبه لا حياته، فحياته لها شأن آخر، أما مناقبه؛ ما
قيل في خصاله، وفي علمه، وفي أدبه، وفي ورعه, لعل هذا الإمام
الكبير يكون قدوةً لنا أيضاً .
قال أحدهم:
((كنا إذا أردنا أن نبكي قلنا بعضنا لبعض:
قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القرآن))
المراد إذا أردنا أن نبكي بكاء الرحمة .
الإنسان أحياناً يشعر بحاجة لا إلى علم يملأ ذهنه، أحياناً يشعر بحاجة إلى حال يغذي قلبه، العلم يملأ العقل، والذكر يملأ القلب، فالعقل غذاؤه العلم، والقلب غذاؤه الذكر، والإنسان إذا ظن أن الدين حقائق، ووجهات نظر، وأدلة، وبراهين، وغاب عنه أن الدين حب, وأن الدين اتصال بالله، وإقبال عليه، وغابت عنه هذه الحقيقة, فقد غاب عنه شطر الدين . قالوا: إذا أردنا أن نبكي، إذا أردنا أن نتصل بالله، والبكاء من خلال الاتصال بالله, يعدُّ علامةً أكيدةً على صدق الاتصال، البكاء ليس إرادياً، أن يبكي الإنسان خاشعاً، أن يبكي إذا قرأ القرآن الكريم، أن يبكي إذا ناجى ربه، إذا توسل إليه، أن يبكي إذا استغفره، وإذا تفكر في خلقه، فهذه علامة طيبة، وأصحاب النبي كانوا بكَّائين، والعين التي لا ينهمر منها دمع من خشية الله, عين فيها مشكلة، وقلب صاحبها قاسٍ كالحجارة أو أشدّ . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ
بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ, وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ))
فمن لوازم الإيمان الصادق: البكاء،
ومن لوازم الاتصال بالله الحقيقي: البكاء، وقد قال بعض أصحاب
النبي: بكينا حتى جفت مآقينا .
فكان هؤلاء يقولون: إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض:
((قوموا بنا إلى هذا الفتى المطَّلبي، يقرأ
علينا القرآن، فإذا أتيناه، واستفتح بالقرآن, تساقط الناس بين يديه
من شدة بكائهم))
لكن هناك نقطة دقيقة جداً: الإنسان إذا
قرأ القرآن, وكان صافياً، إذا قرأ القرآن, وكان منيباً، إذا قرأ
القرآن, وكان متصلاً إذا قرأ القرآن، وكان مستقيماً, عندئذٍ تكون
لقراءته حلاوةٌ تحرك القلوب، خشوعك حينما تسمع القرآن، لا من نغم
القارئ، ولكن من خشوع قلب القارئ، خشوع قلب القارئ ينتقل إلى قلبك
الذي يستمع، فلذلك حينما يقرأ القرآن حرفةً, وحينما يقرأ القرآن
تجارةً، بأجر حينئذٍ, يفقد القرآنُ روحانيته .
فكان هؤلاء يقولون: إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض:
((قوموا بنا إلى هذا الفتى المطَّلبي، يقرأ
علينا القرآن، فإذا أتيناه، واستفتح بالقرآن, تساقط الناس بين
يديه، ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته، فإذا رأى ذلك, أمسك عن
القراءة))
أنت أمَا سبق لك أن سمعتَ القرآن من
قارئ خاشع، ودمعت عيناك؟ أمَا قرأت القرآن، وخشع قلبك، فهذا من
علائم الإيمان، قال تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ﴾
أخواننا الكرام، اسمحوا لي أن أقول
هذه الكلمة، وأرجو ألاّ تكون قاسية: إذا وقفت للصلاة، ولم تشعر
بشيء، أو قرأت القرآن، ولم تشعر بشيء، أو جلست تذكر الله، ولم تشعر
بشيء, فاعلم أن هناك حجاباً بينك وبين الله، وأن هذا الحجاب بسبب
مشكلة، مخالفة، معصية ، سوء ظن، شرك، إلى آخره، فالإنسان يتعاهد
قلبه، لا يبقى هكذا؛ معلومات, حضور مجالس العلم، فكرة، حجة، هذا
شيء جيد جداً، وشطر الدين ذكرُ الله عز وجل، قال تعالى:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
أكبر شيء يحرِّكك إلى الله, هذا
القلب الممتلئ حباً لله، الممتلئ خشيةً له، الممتلئ إنابةً له،
الممتلئ شوقاً إليه، لا تغفل، فقيمة الحال بطريق الإيمان، الحال
شيء مهم جداً، الحال مشكلته مثل كهرباء السيارة، إذا انقطع تيار
الكهرباء تتوقف السيارة، هذا إذا أصر الإنسان على معصية، أو على
صغيرة، لكن إذا لم يكن هناك إصرار, فلا مشكلة، أما إذا أصر على
معصية, وقع الحجاب، وبقي الإسلام ثقافة، وعادات، وتراثًا، إذا لم
يكن لديك اتصال بالله عز وجل, فَقَدْتَ أجمل ما في الدين، أجمل ما
في الدين؛ أن تشعر أنك من الله قريب، لذلك فعن عبادة بن الصامت أنه
قال:
((أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث
كان))
فلذلك أخواننا الكرام، عندما يضحي
الإنسان بشهواته, فله قربٌ من الله، وحينما يرتكب الإنسان كبيرة
ويُحجَب, نقول: هذا الحجاب يتناسب مع هذه الكبيرة، أما معظم
المسلمين فلا يزنون، ولا يسرقون، ولا يشربون الخمر، ولا يقتلون،
فما الذي يحجبهم؟ الصغائر، غير معقول أن تُحجَب عن خالقك، أن
تُحجَب عن ربك لصغيرةٍ ترتكبها، ضعها تحت قدمك، عندئذٍ ربنا سبحانه
وتعالى يتجلى على قلبك .
فكان هؤلاء يقولون: إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض:
((قوموا بنا إلى هذا الفتى المطّلبي, يقرأ
علينا القرآن، فإذا أتيناه، واستفتح بالقرآن, تساقط الناس بين يديه
من شدة بكائهم))
أنـت بربك إذا كنت منيباً، وتلـوت
القرآن, تشعـر لصوتك حلاوة وجاذبية، القرآن نفسه, تسمعه من إنسان
غافل, فلا تتأثر له، تسمعه من إنسان مؤمن, يكاد قلبك يذوب من شدة
الخشوع .
2- الشافعي يتكلم بالفتوى وهو ابن خمس عشرة
سنة :
وقال الربيع بن سليمان:
((كان الشافعي يفتي, وله خمسة عشر عامًا، وكان
يحيي الليل إلى أن مات))
هذه نصيحة لأخواننا الذين عندهم أولاد،
فقدْ يكون عندك طفل متألق، ذاكرته قوية، منيب، ذكي القلب، طيب
الفؤاد، فهذا الطفل يحتاج إلى عناية خاصة، فلعله يكون داعيةً
كبيراً ، عالماً كبيراً، قارئاً كبيراً, محدثاً كبيراً، مصلحاً
كبيراً، وأثمن شيء تملكه؛ أن يكون لك ابن صالح، ينفع الناس من
بعدك, قال تعالى :
﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُوداً﴾
أخواننا الكرام، لا يليق بنا أن نقف
بالصلاة من دون خشوع، لا يمكن أن يقبل الله هذه الصلاة، توقفت،
وتوضأت، واقتطعت من وقتك ما اقتطعت، فلِمَ لا تتقن الصلاة؟ بعض
أنواع الصلوات تلف كالثوب الخرق، ثم يضرب بها وجه صاحبها، تقول له:
ضيَّعتني، ضيّعك الله كما ضيعتني، فإذا وقفت للصلاة, فاجتهد أن
تتصل بالله، وأن تتأمل معاني ما تقرأ، فالحد الأدنى؛ أن تتأمل
معاني ما تقرأ، وأن تركع خاضعاً، وأن تسجد مستعيناً، وأن تقرأ
الآيات متمعناً، لأن الآية الكريمة تقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
الإنسان السكران كان يصلي قبل أن
تحرّم الخمر تحريمًا قطعيًا، فلا يعلم ما يقول، فالإنسان إذا لم
يعلم ما يقول, كان في حكم السكران، فعن عمار بن ياسر أنه قال:
((إن العبد ليصلي الصلاة, لا يكتب له سدسها،
ولا عشرها, وإنما يكتب للعبد من صلاته, ما عقل منها))
أيها الأخوة، قال أحد العلماء، قال جعفر
ابن أخي: سمعت عمي يقول:
((كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي, وهو
شاب, أن يضع له كتابًا في معاني القرآن، يجمع فيه قبول الأخبار
فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع
له كتابَ الرسالة))
كتاب الرسالة للإمام الشافعي, يعدُّ أول
كتاب في أصول الفقه، وأصول الفقه كما قيل : العلماء العاديون أمام
علماء الأصول كالأمِّيِّين، فهو أعلى علم، علم كيف تستنبط الأحكام
الشرعية من النصوص الكلية؟ كتاب الرسالة للإمام الشافعي, يعدّ أول
كتاب في أصول الفقه، واسمه الرسالة .
3- دعاء أحمد بن حنبل له :
الإمام أحمد بن حنبل كان يقول:
((ستةٌ أدعو لهم سَحَراً، الشافعي أحدهم))
أنت تصلي تدعو لمن؟ لمن تحب، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ أَسْرَعَ الدُّعَاءِ إِجَابَةً
دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ))
دعاء الأخ لأخيه في ظهر الغيب لا
يُردُّ، أنت قد تدعو لأخيك في حضرته؛ مجاملةً, أو خوفاً، أو
تملقاً، أو إرضاءً، ولكنك لا تدعو له في غيبته إلا إذا كان محسناً
.
الإمام أحمد بن حنبـل كان يقول:
((ستةٌ أدعو لهم سَحَراً، الشافعي أحدهم))
فإذا علّمك أخ، أو أكرمك بشيء، أو قدّم
لك شيئًا، ودعوتَ له, فهذا من الوفاء، ليس ثمّة إنسان أحسن لإنسان
إلاّ ويقدِّم له مساعدة، أحيانًا يدُلُّه على خير، يجد له عملاً،
أو يزوجه، فإذا جاءك خير من إنسان, فادع له بظهر الغيب، لأن دعوة
الأخ لأخيه بظهر الغيب لا ترُّد, فالإنسان يعوِّد نفسه أن يدعو لمن
أحسن إليه، وأن يقول: جزاك الله عني كل خير .
قال عبد الله بن أحمد:
((كان أبي يدعو للإمام الشافعي، ويكثر له
الدعاء، فقلت له: ومن الشافعي؟ فقال: الشافعي كالشمس للدنيا،
وكالعافية للناس، فانظرْ هل لهذين من خلف، أو منهما عوض؟))
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ
عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا
دِينَهَا))
(مَن): لا تعني واحدًا، بل تعني
الجمع، جاء مَن تحبه، قد تعني أناسًا كثيرين تحبهم، فالإمام
الشافعي كان من مجدِّدي هذا الدين .
وكان أحمد بن حنبل لا يميل إلى أحد كما يميل إلى الإمام الشافعي، انظر إلى الأئمة الكبار، لا يتحاسدون، ولا يتنافسون، ولا يطعن بعضهم في بعض، بل كان كل منهم يعجب بالآخر، ويثني عليه، ويمدحه في حضرته، وفي غيبته، وإنّ الحسد من صفات ضعاف الخلق ، فالإمام أحمد بن حنبل كان يثني على الشافعي، وكان لا يميل إلى أحد كما يميل إلى الإمام الشافعي .
4- قوله حجة عند بعض العلماء :
وتذاكر بعض العلماء في مسألة فقال
بعضهم:
((لا يصح فيها حديث، قال: إن لم يصح فيها حديث,
ففيه قول للشافعي))
لشدة علمه، ودقته، وقوة استنباطه، وحجته
.
قول الإمام الشافعي يعد حجة عند بعض العلماء, هكذا قالوا:
((الشافعي كلامه صواب))
5- عقله الواسع :
وقال أبو عبيد:
((ما رأيت رجلاً أعقل من الشافعي))
والحقيقة: ما مِن إنسان أعقل ممن يعمل
لساعة الفراق، ولا أحَدَ أعقل ممّن يعمل لآخرته، ولا أحَدَ أعقل
ممن يطيع الله، لا أَحَدَ أعقل ممن يؤثر رضى الله على هوى نفسه،
ولا أعقل ممن يبذل في الدنيا .
مرة قال لي رجل: إذا رفّه المسلمُ نفسَه زيادة فهل عصى الله؟ قلت له: هذا المال الزائد عن حاجتك, يمكن أن يجعلك ترقى به في الجنة إلى أعلى عليين، فإذا استهلكته في الدنيا تكون مغبوناً، خذ من المال ما تحتاج، ودع الباقي، فَلَأَنْ ترقى في الجنة، وتصل إلى أحد قصورها الكبيرة, خير لك مِن الدنيا وما فيها .
6- اللقب الذي لقب به :
حتى إن بعضهم قال:
((الشافعي إمام))
فمن الممكن أن تقول: فلان عالم، أو
حافظ، وفلان محدِّث، وفلان فقيه، وفلان أصولي، وفلان عالم عقيدة،
وفلان عالم بمتن الحديث، وفلان قاضٍ، وفلان مجتهد، أما كلمة إمام,
فكبيرة جداً، يعني إمام عصره .
فقال بعضهم: الشافعي إمام، إمام لعصره، فالإنسان أحياناً يغار من أخ فاقه في الدنيا، يغار من إنسان حاز الدنيا، ولا يغار من إنسان حاز الآخرة، أو حاز علماً عظيماً، أو عملاً طيباً، أو ذكْراً عطراً، أو فهماً لكتاب الله، أو حفظاً لسنة رسول الله، أو دعوة إلى الله .
7- تفوقه على أهل زمانه :
وقال أبو ثور:
((من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس؛ في علمه,
وفصاحته، ومعرفته، وثباته، وتمكنه, فقد كذب، كان وحيد عصره، وفريد
زمانه))
والإنسان قد يكون في العصر وحيدًا ، هذه
مرتبة عالية جداً، وقد يكون له أنداد، وأمثال كثيرون، وأحياناً
ينفرد عالِم في التفوق في عصره، حتى يقال عنه: إنه وحيد عصره،
وفريد زمانه، ويبدو أن الشافعي كان وحيدَ عصره ، وفريدََ زمانه .
8- لم يعوض الزمان رجل كالشافعي :
قال:
((كان الشافعي, مُنقَطع القرين في حياته, فلما
مضى لسبيله, لم يُعوض بدلا منه))
الحقيقة: الله ينزع العلم بموت العلماء،
يموت العالم, فلا يأتي خلف له، لذلك قال أحد العلماء: عندنا عالم
جليل، يحضر درسه ثلاثون أو أربعون رجلاً، فلما توفاه الله, سار في
جنازته مليون إنسان .
وهناك عالم آخر ذو دعابة, قال: يا أخوان, أنا أسامحكم في الجنازة، فتعالوا وأنا على قيد الحياة، واحضروا درسي، الناس يميلون إذا مات العالم إلى تقديسه، ولكن النفع وهو حيٌّ يُرزَق، فجالسوه وهو بين أظهركم، تعلموا منه، وخذوا منه، واستفتوه، واهتدوا بدعوته، فلذلك قالوا: كان الشافعي, مُنقَطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله, لم يُعوض بدلا منه .
9- ما وصفه الواصفون :
وهنا نقطة هامة عن الإمام الشافعي، وهي
أنك قد تقرأ كتابًا لإنسان فتمتلئ تعظيماً لمؤلفه، فيه دقة، ونصوص،
وأدلة، وعمق، وتعليل، وتفسير، وشمول، واستيعاب، وحجة قوية، وضع يده
على الجرح، ولامسَ شغاف القلب، فترك أثرًا، فإذا التقيت بهذا
الإنسان, تتفاجأ أنه أقل من كتابه .
أنا كنت أقول: أحياناً تلتقي بإنسان, له باع طويل في العلم، لكن معاملته ليست كما ينبغي، فتقول: ليت أخلاقه كعلمه، وأحياناً تلتقي بإنسان أخلاقه عالية، ولكن علمه قليل, فتقول : ليت علمه كأخلاقه . النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى سيدنا زيد الخير, قال:
((لله درك يا زيد، أيّ رجل أنت؟ ما وُصِفَ لي
أحد فرأيته, إلا رأيته دون ما وصف, إلا أنت))
قد تسمع عن إنسان، ثم تلتقي به, فتراه
أصغر ممّا وُصف لك، تسمع عن مكان، ثم تذهب إليه, فتجده أقلَّ مما
وُصِفَ لك، وتسمع عن آلة، فتشتريها وتستعملها, فإذا هي أقلُّ مما
ذكر لك، أكثر الناس وصفُهم أكبر من واقعهم، فإذا التقيت به كان
بحجمٍ أقل .
حدثني أخ درس في الجامعة علم النفس، وفيها أحد أكبر علماء النفس في قطر عربي ، فهذا العالم له مئات الكتب له، قال لي: اسمه كبير جداً، وفي أحَد المؤتمرات حضر هذا العالم، وجلس معه في جلسة, فرآه دون كتبه . هنا القول:
((ما رأيت أحداً إلا وكُتُبُه أكبر من مشاهدته،
إلا الشافعي, إن شاهدته فهو أكبر من كُتُبِه))
أحياناً تقرأ كتابًا, فترى أن الكتاب
أكبر من مؤلفه، نحن اتفقنا ليكن علمك كأخلاقك، لكي لا يقال: ليت
علمه كأخلاقه، أو ليت أخلاقه كعلمه .
10- حجته في المناظرة :
قال أحدهم:
((لو أن الشافعي, ناظر على هذا العامود, الذي
من حجارة, على أنه خشب, لغلب من يناقشه, لاقتداره على المناظرة))
أي عنده حجة قوية جداً .
وبالمناسبة: فإنّ الله عز وجل ما اتخذ ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلّمه، والآية الكريمة:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ
عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾
قد يأتي إنسان له براعة في الكلام،
يكلم مؤمنا، ويستخف به، ينقض له كلامه في جلسة، ويكون الشخص
مبتدعًا، منحرفًا، خبيث النفس، أفكاره منحرفة، فإنّ تتكلم وتؤثر في
الناس، يفاجئك بسؤال يحرجك به، هذه مشكلة .
لذلك أثمن شيء أن تتعلم، أحياناً تخسر مائة شخص بمناظرة، أنت لا توطن نفسك لتجلس مع مؤمنين، تضطر أن تجلس مع أناس منكرين، مع أناس عقيدتهم زائغة، مع أناس دنيويين، هؤلاء عندهم حجج واهية، ينقضون بها كلام أهل الحق، فلما لا يكون مع الإنسان حجة قوية, يضعف مركزه . قالوا:
((لو أن الشافعي, ناظر على هذا العمود, الذي من
حجارة, على أنه من خشب, غلب خصمه, لاقتداره على المناظرة))
وكان الحميدي إذا جرى عنده ذكر للشافعي,
يقول:
((حدثنا سيد الفقهاء الشافعي))
11- ما قال المزني عن الشافعي :
وقال الشافعي عن نفسه:
((سُمَّيتُ في بغداد ناصرَ الحديث))
والآن سوف يأتي معنا كلام مهم جداً على
علم الكلام، المُزَني يقول:
((ما رأيت أحسن وجهاً من الشافعي، وكان ربما
قبض على لحيته, فلا تفضل عن قبضة))
لحيته وفق السنة .
يجب أن نعلم علم اليقين, أن وجه الإنسان صفحة نفسه، أحيانا تقرأ في وجهٍ الطُّهرَ، وتقرأ في وجه البراءة، وتقرأ في وجه الشوق إلى الله، وتقرأ في وجه الإقبال على الله، فالإنسان يتألق من وجهه، أنت اذكر الله ربع ساعة، صلِّ صلاة متقنة، اقرأ القرآن، وانظر إلى وجهك, تراه متألقاً، تراه كالبدر، كان عليه الصلاة والسلام يتألق وجهه كالبدر ليلة النصف .
12- الكمال الذي وصل إليه :
وقال معمر بن راشد: سمعت المأمون يقول:
((قد امتحنت محمد بن إدريس في كل شيء فوجدته
كاملاً))
وعند الإمام الغزالي بحثٌ عن صفة الإمام
الكامل، فهو إنسان وفق الكتاب والسنة، منضبط بأقواله, وأفعاله,
وأحواله, واتصاله بالله عز وجل, وورعه الشديد، وقيامه بالواجبات
الدينية، دخله حلال، فإنسان بهذا المستوى إنسان عظيم .
الحقيقة: أن الأنبياء معصومون، إلا أن الأولياء محفوظون، ومعنى أنهم محفوظون؛ أي لا تضرهم معصية، بمعنى أنهم إذا زلّت قدمهم، فسريعاً ما يتوبون إلى الله عز وجل، ويستغفرون .
13- ما قال عنه سفيان بن عيينة :
كان سفيان بن عيينة, إذا جاءه شيء من
التفسير والفتيا, التفت إلى الإمام الشافعي ويقول:
((سلوا هذا))
إذا سئلتَ سؤالا لا تعرف جوابه, فدُلَّ
على مَن يجيب عنه، وهذه صفة العلماء، قد يكون الإنسان في الفقه
متفوقًا، وأنت متفوق في التفسير، إنسان متفوق في المواريث، وآخر في
التجويد متفوق، سئلتَ سؤالاً متعلقًا بالتجويد, فقل: اسألوا
فلانًا, فهو أعلم مني، هذه من صفات العلماء، ليس ثمة إنسان, يعلم
كل شيء، فالذي يعلم كل شيء, لا يعلم شيئاً، دائماً هناك اختصاص،
أنت تتفوق في شيء، وحَوِّل الناس إلى مَن هو مختص بهذا الشيء .
الشافعي أول من قال:
((الخلفاء خمسة: أبو بكر, وعمر, وعثمان, وعلي,
وعمر بن عبد العزيز))
أول من وصف سيدنا عمر بن عبد العزيز,
بأنه خامس الخلفاء الراشدين, هو الإمام الشافعي .
14- الشافعي لم يبتغ الهوى في أي شيء تكلم به
خلال حياته :
قال أحدهم:
((لم يُحفَظ في دهر الشافعي أنه تكلم في شيء من
الأهواء))
فمَن قدوته في هذا؟ النبي عليه الصلاة
والإسلام، ماذا قال الله عنه؟ قال تعالى:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
صدقوني، وأنا لا أحنث إن شاء الله؛
أنّ تسعين بالمائة من كلام الناس, ينطلق من أهوائهم، يمدحون ما
عندهم، ويذمّون ما ليس عندهم، الأم تمدح بناتها فقط، ويكون بناتها
في حال وسط، تجعل من بناتها في أعلى مستوى، يمدح الأب أولاده، يمدح
صنعته، وقد تكون وسطًا، فهذا كلام ينطلق من الهوى، والنبي عليه
الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى, فنحن مفروض
علينا أن نقتدي بالنبي، وأن نقول الحقيقة .
وكنت أضرب مثلاً: هذا قدح ماء من بللور صافٍ، لعله أجنبي، إذا قلت لي: كريستال ثمنه ألف ليرة، فأنت ما كنت منصفًا، لكنك تكلمت بالأهواء، وإذا قلت لي: هذه صفيحة عليها صداء أيضاً, لم تكن منصفًا، فالعلم هو الوصف المطابق للواقع، أكثر الناس إذا أحبوا شخصًا جعلوه ملك، وإذا فسخت خطبة ابنتهم, أصبح الخاطبُ أسوءَ إنسان في الأرض، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
((أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا, عَسَى أَنْ
يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا, وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا,
عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا))
كن معتدلاً في مدحك وذمك .
من أقوال الشافعي :
1- وصفه للعلوم :
يقول الشافعي:
((من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تكلم في
الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق
طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه
علمه))
والله هذا قول رائع، الحساب يعطيك رياضة
ذهنية, اللغة والأدب تعطيك رقة في الطبع، الحديث يعطيك قوة في
الحجة, الفقه يعطيك مكانة في المجتمع، القرآن يعطيك قيمة في
المجتمع .
أنت اقرأ القرآن، وتعلم الفقه، واحفظ الحديث، واقرأ الأدب واللغة، وتعلم الحساب, من أجل أن تجمع المجد من كل أطرافه .
2- الزاد الذي حذر منه الشافعي :
للشافعي كلمة رائعة يقول:
((بئس الزاد إلى المعاد العدوانُ على العباد))
الإنسان لو سأل نفسه: ماذا ادخرت إلى
آخرتك؟ هل لك عمل صالح؟ إنفاق، دعوة إلى الله، تعليم، رعاية
للأبوين، رعاية للأيتام، تدرس في سبيل الله، تصبر على الناس ابتغاء
وجه الله، هل لك عمل يكون زادك إلى الله، أم - لا سمح الله ولا
قدر- تكون من ذوي العدوان على العباد؟ بئس الزاد إلى المعاد
العدوان على العباد .
3- مقولته عن المراء في الدين :
ويقول الشافعي أيضاً:
((المراء في الدين؛ يقسي القلب، ويورث
الضغائن))
هناك شخص مثلاً: يحب المراء، يحب
المشاحنة والمجادلة في قضايا صغيرة وجانبية ، يكبرها، ويرمي الناس
بالكفر والشرك، بأخطاء طفيفة، فهذا إنسان عدواني، هذا يتخذ الفكر
سلاحًا له، وما ضل قوم بعد إذ اهتدوا إلا أوتوا الجدل, والمشاحنة،
وتسفيه الآراء، والطعن في الأشخاص، وتقييم الآراء، والتقليل من
شأنها، هذا كله من علامات الجهل، لك أن تبدي رأيك دون مغالاة .
أنا لي طريقة, أتمنى أن أوضحها لكم, واسمها: أسلوب التدخل الإيجابي: لا تهاجم أحدًا، وإياك أن تطعن في أحد، ولا تسفه آراء أحد، أنت قدم الشيء الإيجابي فقط، قدم البضاعة الجيدة، فهي وحدها تكشف زيف الأُخرى، لا تقيِّم الآخرين، قدم الشيء الثمين، قدم حجة قوية، قدم تطبيقًا عمليًا، قدم قدوة حسنة فقط، إياك أن تطعن في أحد . أنت حينما تقدم كأس جيد جداً، وإنسانًا آخر قدم كأس غير جيد، وغير صاف، فهُمْ يختارون الأفضل، لا تقل له: هذا سيء، فهو عنده حس، وسيكشف أنه سيء، تدخل مع الناس تدخلاً إيجابيًا، ودع السلبيات، لأن الأمة الآن بحاجة إلى وحدة صف، بحاجة إلى اجتماع كلمة، بحاجة إلى أن نتعاون فيما اتفقنا، بحاجة إلى أن يعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا، بحاجة إلى التكاتف، بحاجة إلى أن نلتقي عند المتفق عليه، نحن بحاجة إلى أن نلتقي عند الأصول, عند الجذع الواحد الموحد، دعكم من الخلافات، ما الذي فتت المسلمين؟ تسفيه آراء الآخرين، الطعن، المشاحنة، العدوان، البغضاء، الحسد . سألني أخٌ يومًا سؤالاً, فقال: فلان إنسان مبتدع، اتَّهم فلانًا بكذا وكذا، فما قولك؟ كلامه غلط، هو إنسان جاهل، وهذا الصواب، فأثار ضغائن، وأجَّجَ أحقادًا, لم تكد تنتهي . أحد علماء حمص الأجلاء, توفي رحمه الله، سمعت عنه, أنه لا يجيب عن سؤال في موضوع, أضيف إلى عالم, وإنْ سألتَ, فليكن سؤالك من دون أن تنسبه لمعيَّن، ووطِّن نفسك ألاّ تجيب عن سؤال في موضوع أُلصِق بعالم, لعله ما قال هذا الكلام، وأنت غلطت . عندنا مشكلة الأتباع، هذه مشكلة كبيرة جداً، فالأتباع يسيئون ثلاث مرات؛ يسيئون الفهم، ويسيئون النقل، ويسيئون التصرف، فمن أجل ألاّ تُفتت الأمة، وألاّ تشرذم، وألاّ نضعف، وألاّ يعادي بعضنا بعضاً، وألاّ يطعن بعضنا ببعض، فلا تجب عن سؤال في موضوع أُضِيفَ إلى عالم . أمّا لو سألتني: ما قولك في الشفاعة؟ لقلتُ لك: رأيي في الشفاعة، ما قولك في هذا الحديث: هل هذا الحديث صحيح أم موضوع؟ فلان, قال على المنبر: هذا الحديث صحيح، فهل هو صحيح أم هو موضوع؟ يا بني, هذا الحديث موضوع، يقول: سألنا, وقالوا: الحديث الذي قلته موضوع، هكذا يفعل بعض الناس . ترى الأتباع كلٌّ ينحاز إلى شيخه، ويدافع عنه, ويطعن في الآخرين، وتنشب معركة، ونحن في غنى عنها، عاهدوا أنفسكم ألاّ تقبلوا فكرة مضافة إلى عالم، اسألن ألف سؤال، ولكن بلا ذكر عالم، ما قولك فيمن يقول: كذا وكذا؟ ما قولك بالفكرة الفلانية؟ بالحديث الفلاني؟ هذا شيء جميل جداً، وهذا الشيء يريح, وتنتهي كل مشاكلنا, ونبقى يحب بعضنا بعضاً، ويعاون بعضنا بعضاً، ينصر بعضنا بعضاً، يقدر بعضنا بعضاً .
4- مقولة قالها تدل على إخلاصه :
فمن إخلاص الشافعي, أنه قال:
((وددت أن الناس تعلموا هذا العلم دون أن ينسب
إلي))
طبعاً إذا اخترعت شيئًا، والثاني أخذ
الاختراع، وادَّعاه لنفسه، فصاحبه الأول يتألم، ويقول لك: هذا
تزوير، إلا في الدين, خذ العلم، وانسبه لنفسك، وأنا أسامحك، ولكن
علِّم الناس، فقدْ ترى إنسانًا, يأخذ من كتابٍ خطبةً ويلقيها,
فيعتقد الناس أنه هو الذي كتبها، قل: إنك أنت الذي كتبتها، ونحن
نسامحك، ولا مانع .
أحيانا أسمع أن أناسًا أخذوا بعض الكتب، وخطبوا منها، ونجحوا نجاحًا كبيرًا، وما قالوا: إن هذه الخطبة مأخوذة من هذا الكتاب، ولا مانع، أنت تريد الحق أن ينتشر، وانتشر الحق، فقط في أمور الدين هناك تسامح .
5- تحذيره في الخوض في أصحاب الرسول :
وقال أيضاً:
((لا تخوضُنَّ في أصحاب رسول الله، فإن خصمك هو
النبي غداً))
ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:
((إذا ذكر أصحابي فأمسكوا؟))
يعني رئيسَيْ أركان اختلفا في موضوع
استراتيجي، وجندي غرّ دخل البارحة إلى الجيش، فهل هذا أهلٌ ليفهَمَ
مَن هو على حق؟ .
ممرض صغير, هل هو أهل أن يفصل بين جراحين للقلب، أيهما أصوب؟ نحن جئنا متأخرين، كان الله في عوننا، فنحن لسنا أهلاً أن نقول: فلان أصوب أم فلان؟ . فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي, لا تَسُبُّوا
أَصْحَابِي, فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ
أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا, مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ
وَلا نَصِيفَهُ))
6- أمانته العلمية :
بقي موضوع أخير في الإمام الشافعي، وهنا
سؤال يطرح نفسَه: لو أنّ إنسانًا تعلم من إنسان شيئًا، وهذا
الإنسان يحبه حباً جما إلى أعلى درجة، ثم فوجئ أن في الحديث الشريف
توجيه خلاف ما تعلم، فماذا يفعل؟ هل يقول: إنا وجدنا آباءنا على
أمة، أم يرجع إلى سنة النبي؟ .
اسمعوا ما قال الشافعي، قال:
((إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله،
فقولوا بالسنة، ودَعُوا ما قلته))
وله قول آخر:
((فاضربوا بكلامي عُرض الحائط))
وأنا أقول لكم: إذا سمعت توجيهًا من
إنسان، مهما كان كبيراً، مهما كان عظيماً في نظرك، مهما كان
موثوقاً، ثم اكتشفت أن سنة النبي الصحيحة خلاف ذلك، وبقيت متمسكاً
بكلام هذا العظيم، مخالفاً سنة النبي الكريم، فأنت لست مؤمناً، أنت
مع أشخاص لا مع رسول الله، أنت مع الأهواء لا مع دين الله، أنت مع
ما يعجبك لا مع تقنع به .
قال:
((إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله،
فقولوا بالسنة، ودَعُوا ما قلته))
قال له رجل:
((تأخذ بهذا الحديث يا أبا عبد الله؟ قال: متى
رويت عن رسول حديثاً صحيحاً، ولم آخذ به؟ والأصح من هذا, متى رويت
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً، ولم آخذ به,
فأشهدكم أن عقلي قد ذهب؟))
إذا رويت لكم حديثًا صحيحًا، ولم آخذ
به, فاعتبروني مجنونًا .
وقال مرة:
((أي سماء تظلني, وأي أرض تقلني, إذا رويت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أقل به؟!))
بربك كم حديث حفظته, ولم تطبقه، ولم
تأخذ به؟ .
له قول آخر: كل حديث عن النبي, فهو قولي, وإن لم تسمعوه مني . قال الشافعي:
((الحديث مذهبي))
هل هناك إنسان معصوم غير النبي؟ ليس مِن
إنسان مأمور أن نتبعه غير النبي، عصمه الله، وأمرنا أن نتبعه، قال
تعالى:
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
هل لك خيار, إذا وُجِدَ عندك إمكان
أن تختار إنسانًا, مهما بدا لك كبيراً، مهما بدا لك عظيماً، أعطاك
توجيهًا خلاف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تعبأ بقول المعصوم,
الذي لا ينطق عن الهوى، لم تعبأ بقول سيد الأنبياء، فأنت لا تعرف
الله، ولا تعرف رسوله، أنت تمشي مع أشخاص لمصالح، أو لعصبية عمياء،
أو لاعتزاز بالباطل، أما إذا كنت مخلصاً في طلب الحق، فلمجرد أن
تطَّلع على حديث رسول الله, تقف عنده، ولا تعبأ بقول أحد، كائناً
من كان .
من أطاع الرسول فقد أطاع الله :
أخواننا الكرام, الحكم بيننا كلامُ
رسول الله، مشكلة بين زوجين، فالنبي قال: كذا، النبي قال:
((لا تحمروا الوجوه))
لا تخجل إنسانًا، كان عليه الصلاة
والسلام لا يواجه إنساناً بما يكره، ممكن أن تقول له كلامًا تحرجه
به، تصغره، تجتمعون في جلسة، وتقول له: أخي حديثك لم يعجبني، هذه
ثقيلة، أين الرقة؟ هذا الكلام ليس صحيحًا، النبي عليه الصلاة
والسلام كان لا يواجه أحداً بما يكره، كان يصعد المنبر، ويقول:
((ما بال أقوام يفعلون كذا))
ويكون الرجل الذي عمل السوءَ واحدًا،
يجب أن تنصحه، ويجب ألا تحرجه، ولا تخجله، ولا تصغره، فقال على
المنبر:
((ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا))
هذه سنة, فإذا أنت تتكلم العكس, فهذه
مشكلة .
أما إذا أردت أن تواجه الناس بما يكرهون, فأنت مخالف لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، طبعاً إلا إذا وُجدَ خطأ كبير، كإنسان قال: كلامًا خاطئا، فأنا بأدب أقول له: هناك رأي آخر، هل معك دليل؟ هل معك حجة؟ تعلموا من سيدنا الحسن والحسين، لما شاهدا إنسانًا يتوضأ، وأخطأ في الوضوء، فطلبا منه أن يحكم بينهما في وضوءهما، فلما رأى وضوءهما قال: أنا الذي أخطأت . قد تجد ألف أسلوب لتوجه الناس, ويحبوك، ولا تجرحهم، هذه تحتاج إلى لباقة عالية جداً؛ أن توجه إنسانًا راكضًا, يريد أن يلحق الصلاة مع رسول الله، فشوّش على المصلِّين، ولكنه أدركَ الركعة، فالنبي ماذا يقول له؟ إذا عنفه قد يحرجه، قال له النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ))
لقد قيَّم له عمله، وأثنى على حرصه،
ونبهه ألاّ يعود، هكذا الدعوة .
أخواننا الكرام, قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
علامة حبك لله, اتباعك للنبي، قال تعالى:
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
استجابتنا للنبي, هي عينُ استجابتنا
لله .
كنا في عقد قران قبل أن آتي، فطرحت موضوع المولد، قلت في كلمة ألقيتها، قال تعالى:
﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ
مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾
قلت: إذا كان قلـب النبي، وهو سيد
الأنبياء والمرسلين, يزداد ثبوتاً إذا قصت عليه قصة نبي دونه، فكيف
بمؤمن مقصِّر في آخر الزمان، تتلى عليه قصة سيد الأنبياء؟ أليست
هذه الآية أقوى دليل على مشروعية الاحتفال بعيد المولد؟ الاحتفال
بعيد المولد ليس عبادةً ، إنما هو سلوك اجتماعي, ينسحب على إطعام
الطعام، وعلى تذكير الناس بسيد الأنام، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا
لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ
مِنْ جِنَّةٍ﴾
هكذا والله الإمام الشافعي, إمام
عظيم, يجب أن نقف عنده درساً آخر، له أقوال رائعة جداً، هؤلاء
أئمتكم العظام، هؤلاء الذين نقتدي بهم، نقتبس من استنباطاتهم، ومن
أحكامهم الفقهية, التي استنبطوها من كتاب الله, وسنة رسوله .
وقفة متأنية :
أيها الأخوة الكرام، لا زلنا مع
الإمام الشافعي، وقبل أن نمضي في متابعة الحديث, عن مآثره، وعن
مناقبه الرفيعة, لا بد من وقفة قصيرة في موضوع متعلق بأعلام
المسلمين .
فالدنيا لها سقف، مهما كنتَ تملك من المال، فقدرتك على الاستمتاع بالحياة الدنيا محدودة، لو أنك تملك آلاف الألوف, هل تستطيع أن تأخذ فوق حاجتك؟ القدرة على الاستمتاع في الحياة الدنيا محدودة، الدنيا لها سقف, أما إذا عملت للآخرة, ليس هناك سقف . الإمام الشافعي عاش قرابة خمسين عاماً، يعني ليس مِن يوم من ألف سنة ولا الآن, إلا ويذكر الإمام الشافعي عشرات ألوف المرات، اجتهاداته، أقواله، حكمه، مناقبه، فضائله، يا ترى هذه البطولة انفرد بها أم أنها متاحة للجميع؟ إذا انفرد بها تنشأ أسئلة كثيرة، أما إذا كان هذا متاحاً لكل البشر, عندئذٍ نحن نلوم أنفسنا على التقصير . النقطة الدقيقة في هذا الموضوع: أن الناس لا يتفاوتون في قدراتهم، بل يتفاوتون في طلباتهم، كلنا ضعاف، وكلنا فقراء إلى الله عز وجل، بقدر طلبك الصادق من الله عز وجل, الله عز وجل يعطيك من القدرة والإمكان والأهلية ما يحقق هذا الطلب، فنتفاوت جميعاً في صدقنا في طلبنا، فإنسان يعيش مثلاً مائة وثلاثين سنة, تافهاً جداً، لا يترك أثراً، ولا خَلَفًا صالحًا، ولا إنجازاً، ولا عملاً طيباً، وإنسان يعيش خمسين سنة, يملأ الدنيا علماً . ألم يسأل أحدكم نفسه هذا السؤال: ما الذي يحول بيني وبين أن أكون عَلَماً من أعلام الأمة، وهل الإمام الشافعي من جبلة أخرى؟ لا، من خصائص أخرى؟ لا، قال تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام من
بني البشر، قال: اللهم إنني بشر، ولولا أنه تجري عليه كل خصائص
البشر, لما كان سيد البشر .
فالسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا الإنسان في أمر الآخرة يقنع بالقليل؟ يقنع بركعات يؤديها، معلومات يفهمها، لم لا يتفوق؟ باب البطولة مفتوح على مصراعيه، وباب النبوة مغلق، لا نبي بعدي، وباب الصديقية مغلق، قال عليه الصلاة والسلام:
((ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي
بكر))
دعك من باب النبوة، ومن باب الصديقية، أن تكون مؤمناً كبيراً, فهذا بين يديك، ربنا هو ربهم، وإلهنا هو إلههم، ومنهجنا هو منهجهم، إذاً: نحن يمكن لنا أن نسعى للآخرة، ثم دقق النظر في هذه الآيات:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ﴾
هنا مجال التنافس، مجال طلب العلم،
مجال تعليم العلم، مجال تقديم خدمات للمسلمين ، مجال نشر الحق، قال
تعالى:
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
هذا الإمام الشافعي، والإمام الغزالي،
هل هما من نوع آخر؟ صدق الغزالي مع الله عز وجل, فصدقه الله، إحياء
علوم الدين, يعد أكبر مرجع في علم النفس الإسلامي، من لم يقرأ
الإحياء, فليس من الأحياء، كما يقولون، كتاب قيم, أملاه من ذاكرته،
صدق الله فصدقه .
أيها الأخوة، وكل واحد منا بقدر صدقه, ينال من توفيق الله وعونه، سحرة فرعون جاؤوا لينقضوا معجزة سيدنا موسى، فلما رأوا العصا أصبحت ثعباناً مبيناً, آمنوا، قال تعالى:
﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا
آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾
فالذي أتمنى أنْ تعلموه, أن الإمام
الشافعي إنسان عظيم، فهل هو من طبيعة أخرى؟ لا والله، من جبلة
خاصة؟ لا والله، الخصائص واحدة، والإمكانات واحدة، لكنه طلب من
الله طلباً نحن ما طلبناه، وقد أعطاه الله على قدر طلبه، والله
يعطي ويزيد، وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن تصل إلى أعلى درجة، لا
بقدراتك الذاتية، بل بما يؤهلك الله به من قدرات، وهذا التأهيل
متعلق بطلبك الصادق .
إذا لم يحدِّث أحدُنا نفسَه بنشر الحق، والدعوة إلى الله، فأين مكانه عند الله؟ يا بشر لا صدقة ولا جهاد, فبمَ تلقى الله إذاً؟ .
كيف قسم الشافعي وقته في الليل ؟
ولنَعُدْ إلى الإمام الشافعي، قال الربيع:
((كان الشافعي قد جزَّأ الليل؛ فثلثه الأول
يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام))
في الدين شيئان؛ اتصال، وخدمة، وعمل
صالح، من السهل جداً أن يطغى العمل الصالح على عبادتك، ومن السهل
جداً أن تطغى عبادتك على العمل الصالح، إن طغت العبادة على العمل
الصالح, اختل التوازن، وإن طغى العمل الصالح على العبادة, اختل
التوازن أيضًا ، والأكمل: أن توازن بين العبادة والعمل الصالح .
هناك منزلقات، فالإنسان من خدمة إلى خدمة، من مشروع إلى مشروع، إلى تأسيس مسجد، إلى رعاية أيتام، من تأسيس جمعية على حساب اتصاله بالله، عباداته ضعيفة، صلواته غير متقنة، اتصاله بالله غير مكين، يأتي إنسان آخر, يعتني بقلبه وبأذكاره، ولكن ليس له عمل صالح، فكذلك إن طغت العبادة على العمل الصالح, اختل التوازن، وإن طغى العمل على العبادة, اختل التوازن . البطولة: أن توازن بين عبادتك وبين عملك الصالح، الصلاة على وقتها، المبالغة في الاستقامة، وأداء العبادات، ثم الانطلاق إلى الأعمال الصالحة، لا تنسوا أن من أدعية النبي دعاءين اثنين, وأنت في أحد حالين؛ إما أنك في المسجد، وإما أنك خارج المسجد, وإذا كنت في المسجد, فاسمعْ للحديث الشريف، فعن أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ,
فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ
رَحْمَتِكَ، فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ))
خارج المسجد أعمال صالحة، كسب رزق،
تربية أولاد، خدمة الخلق، ضمن المسجد تتلقى من الله التجلي
والرحمات .
فالإمام الشافعي كان قد جَزَّأ الليل، فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، يعني عمل واتصال، الاتصال شحن، والعمل غنى، أنت غني بقدر أعمالك الصالحة، وأنت قريب بقدر اتصالك بالله، فلا بد من شحن لهذه النفس، ولا بد من أداء لهذه الأعمال الصالحة .
من أضرار الشبع في الطعام :
يقول الإمام الشافعي:
((ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرةً واحدة،
فأدخلت يدي فتقيأتها, لأن الشبع يثقل البدن، ويقسِّي القلب، ويزيل
الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف عن العبادة))
فإذا اعتاد الإنسان أكلاً قليلاً, يشعر
بنشاط على أداء الصلوات، ويستيقظ براحة، فالإنسان يجرب أن يأكل وفق
السنة، أكلاً معتدلاً قليلاً، وأن يأكل كما أمر النبي عليه الصلاة
والسلام، يشعر براحة، ونشاط منقطع النظير .
لذلك: أول بدعةٍ ابتدعها المسلمون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (الشبع) .
الشافعي لم يحلف بالله لا صادقاً ولا كاذباً :
شيء آخر من مناقب الإمام الشافعي إذ
يقول:
((ما حلفت بالله لا صادقاً، ولا كاذباً))
لماذا؟ لأن الله عز وجل قال:
﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾
عود الناس على أن كلامك مصدقٌ بلا
يمين، ويقع معظمُ الناسُ في خطأ, من أجل أن يقوِّيَ المرءُ كلامه,
يلجأ إلى الأيمان المغلظة، وهذه العادة كرهها الإمام أبو حنيفة رضي
الله عنه، بل كان يدفع دينارَ ذهب، إذا حلف يميناً صادقاً، وهو لا
يكذب إطلاقاً، لأن الله عز وجل قال:
﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾
كرم الشافعي :
وقال عمرو بن السواد:
((كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم
والطعام))
والحقيقة: أنّ الدينار والدرهم محك، قال:
أتعرفه؟ قال: نعم، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: هل جاورته؟
قال: لا، قال: هل حاككته بالدرهم والدينار؟ قال: لا، قال: إذًا:
أنت لا تعرفه .
فموضوع المال؛ أنْ يضبط الإنسان كسبه، ويضبط إنفاقه، وهذا شيء أساسي في حياة المؤمن، إذا سافر إنسان مع أخوانه, فهو دقيق في الدفع، ألا يدفع؟ ليس معقولاً، قدمت له هدية, ما يكافئك عليها؟ ليس معقولاً، فكلما كان إيمان الإنسان قويًا، يصبح ورعه المالي شديدًا جداً . أنا أذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام انقطع عنه الوحي أسبوعين, فقال: يا عائشة, لعلها تمرةٌ أكلتها من تمر الصدقة, وجد على السرير تمرةً فأكلها, فالإنسان كلما كان ورعاً في النواحي المالية, كلما كان الطريق إلى الخالق سالكاً . قدم الشافعي صنعاء, فضربت له خيمة، ومعه عشرة آلاف دينار، فجاء قوم فسألوه فأعطاهم، فما قلعت الخيمة، حتى أنفق كل ما معه،
((لمن هذا الوادي يا رسول الله؟ قال: هو لك ،
قال: أتهزأ بي؟ قال: والله هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله، تعطي
عطاءَ مَن لا يخشى الفقر))
الإنسان دائما يتألّف بالعطاء قلوب
الناس، الأشخاص الماديون إن أعطيتهم أسِرتَهم، دائماً هذه قاعدة:
العطاء يقرب، وهناك عطاء يبعد، فإذا كان الإنسان متفلتًا, فالمال
يمكن أن يعينه على المعاصي، وهذا العطاء يبعده عن الله، وبعض الناس
يكون المال عزيزًا عليه، لكنه منضبط، إن أعطيته قرَّبتَه .
كلمة حق قالها الشافعي :
وعن الربيع قال, سمعت الشافعي, يقول:
((من استُغضِب فلم يغضب, فهو حمار، ومن استرضي
فلم يرضَ, فهو شيطان))
إنسان يسترضيك، يعتذر إليك، يقدم
المعذرة، يقول لك: سامحني لم أكن منتبهاً، وأنت لا ترضى، فمن
استرضي فلم يرض, فهو شيطان، خالق الكون إذا استرضِيَ رضيَ، الله
كيف يسترضى؟ بالصدقة، بالتوبة .
((صدقة السر تطفئ غضب الرب))
((باكروا بالصدقة, فإن البلاء لا يتخطاها))
يعني إذا إنسان لا سمح الله زلَّت قدمه،
فماذا يفعل؟ ييأس؟ اليأس كفر، لا تيأس، واسترضِ ربك بالتوبة،
واسترضه بالصدقة، إذا أذنب العبدُ مرة واحدة, فالتوبة منه سهلة
جداً ، أما إذا زلّت القدم ثانيةً، ووقعت في الذنب نفسه, كيف
تسترضي الله عز وجل؟ بالتوبة الثانية مع الصدقة، لأن الحسنات يذهبن
السيئات .
عَنْ أَبِي ذَرٍّ, قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعِ
السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ
حَسَنٍ))
المؤمن حكيم يعالج نفسه دائماً، يعرف كيف يكون له اتصال بالله, وإذا حجب عن الله عز وجل, فالله يُسترضَى، إذا كان الله غاضباً على مؤمن لزلّةٍ زلّ فيها, استُرِضيَ ربنا بالتوبة والصدقةِ، فإنّ صدقة السر تطفئ غضب الرب، باكروا بالصدقة, فإن البلاء لا يتخطاها، الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير . يجب أن تعرف أنك مخلوق للجنة، والمؤمن عنده أوسع باب يدخل به على الله تعالى، هو باب التوبة، قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
لو جئتني بملء السموات والأرض خطايا,
غفرتها لك ولا أبالي .
سمعت الشافعي يقول:
((من استغضب, فلم يغضب, فهو حمار))
فهو ليس من بني البشر .
قال أبو زرعة:
((مات الثوري، ومات معه الورع، ومات الشافعي،
وماتت معه السنن، ويموت أحمد بن حنبل، وتظهر البدع))
في الإسلام أعلام، العلماء الأعلام,
هؤلاء منارات الهدى في الحياة، فلذلك قال بعضهم: إنّ القائد بيبرس,
قال:
((والله ما استقر ملكي, حتى مات العز بن عبد
السلام))
قيل للحسن البصري:
((بمَ نلت هذا المقام؟ قال: باستغنائي عن دنيا
الناس، وحاجتهم إلى علمي))
بالورع والزهد، والمثل الأعلى .
من نوادر التاريخ :
يقول أحدهم:
((واللهِ ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى هو مثل
نفسه))
انظروا إلى التفوق، والذي أرجوه ألاّ
يكون هذا الدرسُ, درسَ قصة، ولا درس اطلاع، الوقت ثمين جداً، ولكنه
درس تحفيز، أنت من أي نوع؟ أنت تملك المقومات, لتكون علماً من
أعلام الأمة .
ذات مرة: ذكرت لكم قصة أعيدها, لأن فيها فائدة، إنسان بالخامس والخمسين سنة، تمنى أن يكون عالماً، وهو أمِّيٌّ، لا يقرأ ولا يكتب، ركب دابته, وهو من صعيد مصر، واتجه إلى القاهرة، وفي ذهنه أنه يوجد جامع اسمه: الأزعر، فسأل أحدهم: أين الأزعر؟ فقال له المسؤول: هو الأزهر، دلوه على الأزهر، تعلم القراءة والكتابة، ثم تعلم القرآن، ثم طلب العلم ، وعاش حتى السادسة والتسعين، وما مات إلا وهو شيخ الأزهر ، شيخ الأزهر، أعلى علماء مصر منزلة، بدأ علمه في الخامسة والخمسين . يا أيها الأخوة، ما أردت أن يكون هذا الدرس قصةً, ولا إعلاماً، بل أردته حافزاً للإنسان على أنْ يطلب العلم، ويعلِّم العلم، يؤلف كتابًا، يخدم الناس، لك أن تؤلف القلوب، ولك أن تؤلف الكتب، تأليف القلوب أشد تأثيراً، وتأليف الكتب أطول أمداً، والأولى أن تجمع بينهما، أن تؤلف القلوب، وتحدث عند الناس تأثيرًا عميقًا، وأن تؤلف الكتب، وتحدث تأثيرًا مديدًا . الإمام الغزالي كان في مجلسه أربعمائة عمامة، أربعمائة عالم يحضرون درسه، ولما توفي لو لم يكن له مؤلفات, لمات ذِكْرُه، ماذا حل مكان الغزالي بعد موته؟ إحياؤه، والقرطبي أكبر مفسر للقرآن, ترك التفسير العظيم، وكأنه لم يمت، اتركْ أثرًا في دعوة إلى الله، في عمل الخير، في الشيء الطيب .
من عجائب الشافعي :
يقول الفضل بن زياد:
((ما أحد مس محبرةً ولا قلماً, إلا وللشافعي في
عنقه منةَ))
قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً
طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ﴾
أذكر أنني حضَّرتُ مرةً خطبة من تفسير
من التفاسير القيمة، وموضوع الخطب تفسير آية، فيه شرط لطيف جداً،
وألقيت الخطبة، وشعرت أنها كانت ناجحة جداً، وتركت أثراً طيباً
جداً، واللهِ بقيت أسبوعًا أترحم على هذا المفسر، الذي كان هو
السبب في نجاح هذه الخطبة، قلت: هذا الرجل مات منذ ألف سنة, ولكن
العلم مستقر في كتابه, وانتفع الناس منه من بعده، قد لا تعلم: مبلغ
الآثار الطيبة التي ينشرها الله على يديك, إذا أخلصت له .
اليوم كنا في زيارة أخ، قال: كنت طالباً في التعليم الإعدادي عند مدرس لغة عربية، يُمضي عشر دقائق في كل درس عن آداب المسلم في بيته، كيف يستيقظ؟ كيف يؤدي صلواته ، كيف يتناول الطعام؟ فهو يذكر هذا المعلم، ويترحم عليه، فإذا تركت أثرًا بين الناس, فأنت أسعد الناس . صدقوني أيها الأخوة, أن تعريف الغنى الحقيقي: هو غنى العمل الصالح، والفقر: هو فقر العمل الصالح، والغنى والفقر بعد العرض على الله .
مقولة قالها أحد اللغويين :
أما في اللغة، فقال أحد اللغويين:
((جالسنا الشافعي فما سمعت منه لحنًا قط))
لحَن أحد الأعراب أمام النبي الكريم صلى
الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:
((أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل))
وقالوا:
((جمال الرجل فصاحته))
وقال سيدنا عمر:
((تعلموا العربية فإنها من الدين))
هذه لغة القرآن، فكلما أتقنتها, أتقنت
جزءًا من دينك، لأنك إذا قرأت القرآن, وكنت متقناً لهذه اللغة،
فإتقانك هذا, يعينك على فهم القرآن الكريم بشكل أدق، وبشكل أوسع .
وقال بعضهم:
((ما رأيت أحداً أفوه ولا أنطق من الشافعي))
الحقيقة: أنّ ميزةَ اللغة, أنها وعاء
الحق، فإذا كان الوعاء نظيفًا وجميلاً, فقد قدَّمتَ الحق للناس
بشكل مرغوب فيه، أما إذا أنت ذكرت الحق بلغة عامية غير متماسكة,
شوهت الحق، أحضرْ أفخر شراب، وضعه في إناء غير نظيف، فيه صدأ، لا
يرغب أحدٌ في شربه، أما إذا كانت الكأس صافيةً، نظيفةً، متألقةً،
لها لمعة، فهذا مما يعين على استساغة الشراب، وأنت كمؤمن, من
المفروض عليك, أن تقدم الحق بقالب أدبي لغوي، وهذا يعين على إيصال
الحق للآخرين، فاللغة أداة، وليست هدفاً، أما عند أهل الأدب فهي
هدف، لكنها عند أهل الدين أداة، والفرق بينهما كبير، يمكن لشاعر
أنْ يؤلف ديوانين من الشعر في الغزل، والهجاء, والمديح، ويضيع
حياته سدى!؟ قال تعالى:
﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
يمكن أن تستخدم اللغة أداة ووعاء، أما
أن تجعلها هدفاً, فهذا خطر كبير، وقال بعضهم:
((ما رأيت أحداً أفوه ولا أنطق من الشافعي))
في المنطق والحجة، لأن الله عز وجل قال:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ
عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾
من المستحيل أنْ يكون المؤمن صادقًا،
وليس معه حجة، مؤمن صادق لا يمكن أن يدافع عن وجهة نظره، هذا
مستحيل، مؤمن صادق ما معه حجة على أحقية دينه, مستحيل .
الشافعي حجة في أهل عصره :
قال أحدهم:
((ما رأيت الشافعي، يناظر أحداً إلا رحمه، ولو
رأيت الشافعي يناظرك, لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علم الناس
الحِجاج))
قد يقابلك إنسان, تحترمه لورعه، أما إذا
تكلم, لم تسمع له حجة، وكانت أفكاره ضعيفة جداً، ويأتي إنسان
منحرف، لا يعتقد بالدين, فيصغّره ويهزمه، أنت لا تحترم رجلاً
أخلاقه عالية، لكنه جاهل، هذا لا تحترمه، فلا يكون في نظرك كبيراً،
أخلاقي ورع، لكنه في المناقشة لا يصمد، يأتي إنسان منحرف العقيدة,
يصغره ويحطمه، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلَّمه،
فالحجة من لوازم المؤمن، لأن فضل العالم على العابد, كفضل القمر
ليلة البدر على سائر الكواكب، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ,
كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ, ثُمَّ تَلا هَذِهِ الْآيَةَ:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾إِنَّ
اللَّهَ, وَمَلائِكَتَهُ, وَأَهْلَ سَمَوَاتِه,ِ وَأَرَضِيه,ِ
وَالنُّونَ فِي الْبَحْر,ِ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْخَيْرَ))
كم تكون المسافة كبيرة بين النبي صلى
الله عليه وسلم وبين آخر مؤمن, هي نفسها بين العالم والعابد، لعالم
واحد أشدُّ على الشيطان من ألف عابد، العلم سلاح .
أحياناً ترى إنسانًا انتمى إلى مسجد، واتبع الدين، وفجأةً انتكس، وارتكبَ كلَّ الكبائر، فما تفسير ذلك؟ هذا ما اتبع العلم، وما بنى اتجاهه على علم، بنى اتجاهه على تقليد، فلما جاءت الشهوات، وكانت مقاومته هشة, انتكس، هناك ضغوط في الحياة، وهناك شهوات، لا يصمد أمام الضغوط ولا أمام الشهوات, إلا إيمان قوي أساسه علمي، والعلم سلاح كما قال النبي الكريم:
((العلم سلاحي))
فكل إنسان بنى اتجاهه على التقليد، على
الانتماء العاطفي، هذا ربما لا يصمد أمام ضغط, أو أمام إغراء، أو
أمام شبهةٍ، ويقف دونك ثلاثة مزالق؛ شبهة في الدين، أو ضغط اجتماعي
كبير، أو إغراء شديد، أمام الإغراء، والضغط، والشبهة, تنهار قوى
الإنسان، ولا يصمد أمامها، لذلك قال أحدهم:
((ما رأيت الشافعي يناظر أحداً إلا رحمه، ولو
رأيت الشافعي يناظرك, لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علم الناس
الحِجاج))
أحيانا: أهل الدنيا يتوهمون أن الحق
معهم، وهم الذين يفهمون، وأهل الدين دراويش، وقد يتفاجؤون عندما
يلتقون برجل من أهل العلم, لا يقف شيء أمامه، صاحب حجة، منطقي
واقعي، طموح، متماسك مع ذاته، ليست عنده ازدواجية، ولا يكيل
بمكيالين، قلبه على لسانه، سريرته كعلانيته، جلوته كخلوته .
الشافعي يحافظ على نعمة الماء :
ويقول بعضهم:
((ما رأيت أحداً أقل صبًّا للماء في تمام من
الشافعي، يستهلك أقل كمية من الماء، ويقوم بأكمل وضوء))
قد ترى رجلاً, فتح صنبور المياه, حتى
النهاية في الحمام، رد على الهاتف، والصنبور مفتوح، هذا خطأ كبير .
مرة النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وبقي في الإناء فضلة ماء قليلة، فقال عليه الصلاة والسلام:
((ردوها في النهر, ينفع الله بها قومًا آخرين))
هذا أيضاً الاقتصاد في الماء، وكما
يقولون: العالَم الحديث مر بحربين؛ حرب النفط، وحرب القمح، والحرب
القادمة حرب الماء، فالماء أخطر شيء في الحياة، والعالَم في شحٍّ
مِن المياه، الآن المفاوضات والحروب، والمشكلات والمنافسات على
الماء فقط، على منابع المياه ، وحاجة الإنسان للماء مهمة جداً،
فلذلك الاقتصاد في الماء حضارة، رقي، صنبور يتسرب منه الماء, يمكن
للعداد أن يسجل أعدادًا متواليةً ما دام التسريب، طبعاً كما تعلمون
الماء قوام الحياة، والاقتصاد في الماء من العبادة .
اسمع أيها الفقيه :
ويقول الشافعي:
((ينبغي للفقيه أن يضع التراب على رأسه,
تواضعاً لله وشكراً له))
فعندما تسمع عن أقوام يعبدون الشمس،
أقوام يعبدون البقر، أقوام يعبدون النار، أقوام يعبدون أعضاء
الرجال في اليابان، أقوام يعبدون الموج، أقوام يعبدون الجرذان .
إذا عرف الإنسانُ اللهَ، وعرف كتاب الله، واستنار عقله بهذا الدين العظيم، وسلك الطريق القويم, فلا يضل ولا يشقى، لكم بشارة عند الله عز وجل، قال تعالى:
﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ﴾
ما دام الله قد أسمعنا, فلعله علم
فينا خيراً، فهذه بشارة، إذا سمح الله عز وجل لك أن تسمع الحق، سمح
لك أن تفقه، وأن تفهم أمر دينك، أعانك على طاعته، وأعانك على غض
البصر، وهو من أجلِّ العبادات في هذا الزمان، أعانك على التعفف عن
المال الحرام، وأعانك على أن تكون منصفاً، أعانك على أن تعطي كل ذي
حق حقه، فهذه من أجلِّ النعم التي أكرمك الله بها، من أجل أن تعرف
مكانتك عند الله عز وجل, اجلس مع صديق قديم، صديق له جاهلية، اجلس
معه ساعة، واستمع إليه، وانظر إلى سخافته, وإلى تناقضه، وإلى
شهوانيته، وإلى تفلته، وإلى شقائه, وإلى تبرمه، أنت في جنة، جنة
القرب، جنة المعرفة .
إنسان أصابه مرض الريئان، ولكن من النوع الخطير والمميت، فزار طبيبًا، وأنا التقيت مع هذا الطبيب، فأراد الطبيب أن يفهم ما السبب؟ وظل يحاول معه ويستدرجه, حتى صرح له المريض بالسبب، وله زوجة وأولاد وبنات، يفعل الفاحشة الشاذة مع أناس، فهذا شقي، ترى الإنسان ما دام مستقيمًا, فهو مَلَكٌ، لأنه مالكٌ زمام أمرِه، وما دام عفيفًا, فهو يشعر بقيمته عند الله، أما حينما تزلُّ قدمه, يسقط من عين الله، ومن عين الناس، وله عقاب أليم، ولكن قد يأتي على الإنسان العقابُ الأليمُ بعد انحراف خطير، فيلاقي مِن الآلام ما لا سبيل إلى وصفه .
الشافعي يعترف للآخرين بالفضل عليه :
قال بعضهم:
((هل تعرف سُنَّةً للنبي صلى الله عليه وسلم في
الحلال والحرام, لم يودعها الشافعي في كتُبَه؟ قال: لا))
لقد تقصَّى الإمام الشافعي أن تكون كتبه
منطويةً على سنة رسول الله، وهو القائل:
((إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث, فكأني رأيت
رجلاً من أصحاب رسول الله, جزاهم الله خيراً، حفظوا لنا الأصل،
فلهم علينا المنة والفضل))
النقطة الدقيقة: أننا لا نعلم عظمة هذه
السنة، سيدنا سعد قال:
((ثلاثة أنا فيهن رجل، وفيما سوى ذلك, فأنا
واحد من الناس؛ ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً,
إلا علمت أنه حق من الله تعالى))
أنت أمام كتب السنة الكثيرة، أن تقول:
قال عليه الصلاة والسلام، فهذا إنسان لا يخطئ، ولا ينطق عن الهوى،
هذا إنسان معصوم، هذا إنسان مشرِّع، هذا أعظم إنسان في حياتك .
أحيانا الإنسان يقضي ساعته كلها في حديث شريف، ذات مرةٍ التقيت مع رجُلين؛ أحدهما رجل متورط ورطة كبيرة، صاحبَ رجلاً غير مؤمن، جلب له مشكلة كبيرة، والثاني دعا غير مؤمن لطعامه فحسده، فقلت للثاني: لمَ لمْ تستجب لنصيحة رسول الله:
((لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا, وَلَا
يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ))
ويقول الشافعي:
((عليكم بأصحاب الحديث, فإنهم أكثر الناس
صواباً))
فأنت أمام منهج، النبي يقول كذا، إذا
فكرت أن هناك رأياً أصوب من رأي النبي, فأنت لا تنطوي على ذرة
إيمان .
الشافعي لم يكن معتزلاً عن الناس ودليل ذلك علمه
بأيامهم :
ويقول أحدهم:
((ما رأيت أحداً أعلم بأيام الناس من الشافعي))
أي بالوقائع اليومية، فالإنسان الداعية
لا ينبغي أن يكون معزولاً عن الأحداث، الأحداث فيها عِبر .
ذكرت لكم من قبل: أنه يمكن أن تعرف الله من خلقه للكون، ويمكن أن تعرفه من كلامه, ويمكن أن تعرفه من أفعاله -الحوادث -, المؤمن متكامل, حتى لو تتبع أخبار ما يجري هذه الأخبار . (بأطلنطا) قال رئيس البلدية: إن هذه البلدة أأمن بلدة بالعالم قبل افتتاح المهرجان الرياضي، ثم فوجئوا: أن هناك انفجاراً أدى إلى جرح المئات، المؤمن لا يملك المستقبل، لأنه لا يعلم الغيب فيتأدب، قالها وهو يتحدى . فإذا كان الإنسان ذا علم, فكلامه موزون، وكلامه وفق المنهج، لقد سَمَّوْا مركبةً (اشلنجر) أي التحدي، بعد سبعين ثانية أصبحت كتلة من اللهب، فيها تسعة أشخاص، بينهم امرأة، فقضية التحدي, فيها جهل كبير، وقد يتفوّه الإنسان بكلمة كبيرة, يحطِّمه الله عز وجل بها، فتجد المؤمن متوازنًا، لا يقع في تناقض في حياته، أقواله كلها واقعية، أما غير المؤمن فيعلو ثم يسقط، يصعد إلى علٍ، ويسقط من علٍ، أما المؤمن فهو صاعد صعوداً بطيئاً مستمراً إلى أبد الآبدين، الموت نقطة على هذا الصعود, يبقى صاعداً آمنًا، فخطه البياني صاعد صعوداً متوازناً، يأتي الموت ويستمر صاعداً، الموت فقط تبديل ثياب، خلع هذا الجسد ليكون بحالة أخرى، لكنه يبقى هو هو . هناك باليابان: منطقة أجروا اختبارات ضد الزلازل على الكمبيوتر، فهذه المنطقة جاءها زلزال، ولم يقمْ هذا الجهاز بعمله، ونكبت اليابان برقم فلكي، أضخم ثلاث شركات في اليابان, أصابها زلزال واحترقت، كلام الكفار فيه تحدٍّ، واللهُ عز وجل بالمرصاد .
حسن الأداء وقوة البيان عند الشافعي :
قال بعضهم:
((لو رأيت الشافعي, وحسن بيانه, وفصاحته لعجبت،
ولو أنه ألف هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها معنا في
المناظرة, لم نقدر على قراءتها, لشدة فصاحته, و غرائب لفظه، غير
أنه كان في تأليفه, يوضح للعوام))
تأليفه أبسط من كلامه، كلامه عميق جداً .
من أنواع البلاء الذي كان ينزل على الشافعي :
وقال عالِم آخر:
((ما لقيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي))
مرة التقيت بقريب لي، توفي رحمه الله،
وأعمال صالحة، وله علم بالله عز وجل، قال: في ساعة من ساعات ضيقه،
إذْ كان يعاني من أمراضٍ كثيرة، وجميعها مزمنة، فمرة كأنه يعاتب
الله عز وجل، قال له: يا ربي، أنا كل حياتي مريض، قال: فوقع في
قلبه: أن يا عبدي، لولا هذا المرض, لما كنت بهذا الحال، لولا هذه
الأمراض, لما كنت بهذه الأحوال ضارعًا، هو الحكيم، فالإنسان عليه
ألاّ يكره الشيء الذي يؤلمه، فقد يكونُ سببَ نجاته .
من المسائل التي وردت عن الشافعي في مجال العقيدة :
هناك قضية مهمة جداً عند الإمام
الشافعي متعلقة بالعقيدة، قال شيخ الإسلام في كتاب عقيدة الشافعي,
أنه سئل عن صفات الله تعالى, فقال: لله صفات وأسماء, جاء بها
كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسع أحد, قامت عليه
الحجة أن يردَّها، أي إذا كان الشيء في القرآن مذكورًا، وفي السنة
صحيحًا مأثورًا، فلا يمكن أن تكون مؤمناً، وأن تردها، فهذا مستحيل،
لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول
بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه, فهو كافر .
مثلاً قال لك شخص: الاستقامة صعبة جداً، هذا كلام، قلت له: قال تعالى:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَهَا﴾
وأصرَّ على أن الاستقامة مستحيلة أو
صعبة، فماذا فعل؟ ردّ كلام الله عز وجل بعد ثبوت الحجة، وهذا شيء
خطير جداً، أي قال لك:
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ
وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
خطب ابنتك رجل، أخلاقه عالية، إيمانه
كبير، لكن الماديات وسط، ثم تقول: لا يسعدها إلا بالمال، فأنت ماذا
فعلتَ؟ قد رددت كلام الله، أليس كذلك؟ .
لكن هناك نقطة دقيقة: كنتَ غافلا عن آية، ذكَّرك بها أحدٌ، فبعد أن تذكَّرتها, إن أصررتَ على موقفك المناقض لكلام الله, فقد كفرت، هذا كلام الإمام الشافعي، لأن الله يقول:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾
قال لك الله عز وجل:
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾
إذا كان يعتقد أن إنفاق المال في سبيل
الله, يمحق المال، وأن استثماره ربوياً يزيده ، وذكَّرته بالآية،
وأصرّ على موقفه, فقد كفر .
قال: أما قبل ثبوت الحجة, فهو معذور بالجهل، فالآية غير منتبه لها، فقد اعتقد شيئاً خلاف القرآن، والآية لم ينتبه لها، وللشافعي كلمة قال فيها:
((لا نكفر بالجهل أحداً, إلا بعد انتهاء الخبر
إليه))
فالجاهل لا يكفر، ولكن يُعلم .
من نصائح الشافعي :
قال الشافعي:
((تعبَّدْ قبل أن ترأَس، فإنك إن ترأست, لن
تقدر أن تتعبَّد))
وهناك قول آخر مشابه:
((تعلموا قبل أن ترأسوا، فإنكم إن ترأستم, فلن
تعلموا))
العلم ليس فيه حل وسط، قبل أن تلقي على
الناس العلم, يجب أن تكون متمكناً، والإنسان إذا ترأس قبل أن يتعلم
العلم الكافي, يصعب عليه أن يخضع لغيره، لذلك أكبر آفة تصيب من
يتصدون لتعليم الناس, أنهم يبدؤون بالتعليم قبل أن يتمكنوا، فإذا
وُجِّهوا إلى الصواب, رفضوا، لأنه صار من الصعب أن يتراجع، هذا من
أخطاء التعليم، تعلموا قبل أن ترأسوا, فإن ترأستم فلن تعلموا، أما
هناك قلة قليلة تجمع بين التعليم والتعلم، والنبي الكريم يقول:
((يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه
قد علم, فقد جهل))
مرة كنا في الجامعة، وجاءنا أستاذ من
تونس، يُعَدُّ من أندر علماء العربية، جاء إلى جامعتنا, ليلقي
محاضرة، جمعوا طلاب السنة الرابعة في المدرج، وكان الأساتذة الذين
يدرِّسوننا اللغة العربية في أول صف، أنا كنت ألاحظ إلى هؤلاء
الأساتذة، فأكثرهم يستمع، إلا أن أعلمهم, جاء بورقة وقلم، وبدأ
يكتب، هذا الذي يكتب, معناها عالم ويتعلم، يتعلم أمام طلابه .
ما قاله أحمد بن حنبل عن الشافعي :
وقال بعضهم، وهو أحمد بن حنبل:
((إن الله تعالى يقيِّض للناس في كل رأس مائة
سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله الكذب، فنظرنا فإذا على
رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المائتين الإمام
الشافعي))
كلما أصبح, هناك انحرافات، إضافات, يقيض
الله لهذه الأمة علماء صادقين، يعيدون الدين إلى أصله، إلى نقائه .
وأنا أنصح أخوتنا الكرام، والمثل واضح بين أيديكم: نهر بردى، له نبع، وله مصب، انظر إلى منبعه، انظر إلى صفاء الماء ورقته، انظر إلى مصبه، فالماء أسود، فأنت إذا أردت أن تنهل من هذا النبع, إلى أين تذهب؟ إلى منبعه، منبع هذا الدين الكتاب و السنة . قيل:
((لما قدم الشافعي إلى بغداد, كان في المسجد
نيف وأربعون حلقة، فلما دخل بغداد, مازال يقعد في حلقة وحلقة، و
يقول لهم: قال الله, وقال رسوله، وهم يقولون: قال أصحابنا, وقال
فلان, وقال فلان، هو أعادهم إلى الأصل، إلى الكتاب و السنة، قال:
ثم ما بقي في المسجد, إلا حلقة الشافعي))
الأصل أن تعيد الناس إلى كلام الله, وإلى
سنة رسوله .
من حساد الشافعي :
وهناك دائماً حسد، فهذه قصة مفيدة
جداً، قال زكريا بن يحيى:
((حدثني الحسن بن محمد الزعفراني: حج بشر
المريسي ذات سنة إلى مكة، ثم قدم فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلاً ما
رأيت مثله سائلاً, ولا مجيباً، أي الشافعي، وهو رجلٌ له حلقة دينية
في بغداد كبيرة جداً، ثم قدم الشافعي إلى بغداد, فقال بعض تلامذته:
هذا الذي تزعم أنه ليس مثله عالم, قد حضر إلى بغداد، قال: إنه قد
تغير على ما كان عليه))
أي تراجع، هناك حسد دائماً .
فلا بد للمؤمن من كافر يقاتله، ومنافق يبغضه، ومؤمن يحسده، ونفس ترديه، وشيطان يغويه .
ما كتب على قبر الشافعي :
كُتِب على قبر الإمام الشافعي كلام
طيب: هذا قبر محمد بن إدريس الشافعي، وهو يشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار
حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن
صلاته، ونسكه, ومحياه لله رب العالمين, لا شريك له، وبذلك أمر, وهو
من المسلمين, عليه حيِا، وعليه مات، وعليه يبعث حياً إن شاء الله
تعالى .
توفي أبو عبد الله ليوم بقي من رجب سنة أربع ومائتين للهجرة . عاش حوالي خمسين عامًا، وترك كتاب الأم، وكتاب الرسالة، وترك علماً غزيراً, لا يعلمه أحد بعده .
والحمد لله رب العالمين
|
0 التعليقات: