أهمية الإيمان

إن أفضل الأعمال عند الله وأزكاها هو الإيمان؛ لما رَوى أبو ذر رضى الله عنه من سؤاله لرسول الله ﷺ بقوله " يارسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال ﷺ: الإيمان بالله والجهاد في سبيله" (رواه مسلم) وهو سبب للهداية والسعادة الدنيوية والأخروية، لقوله جل وعز{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] والإيمان صارف للمؤمن عن المعصية، لقوله جل وعز{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] الإيمان شَرط لقبول العمل، قال الله تعالى{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ،فالإيمان الخَالِص يُبارك الله به العمل، ويتقبل به الدعوات.



بلاغ عام





Image

سيدنا علي بن أبي طالب 5


 سيدنا علي بن أبي طالب
 من أقواله وحكمه



لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المرتبة التي حازها علي من علم النبوة :
 أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الخامس من سيرة الإمام الكبير سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله تعالى وجهه، ولقد تحدَّثنا في الدرس الماضي عن طائفةٍ من أقوال هذا الإمام، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
" أنا مدينةُ العلم وعليٌ بابها "
( أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس )
 وكلما قرأنا من أقوال الإمام قولاً وجدنا في هذا القول مصداق قول النبي عليه الصلاة والسلام, فيقول هذا الإمام الجليل: " من كرُمتْ عليه نفسُه هانت عليه شهواتُه", أيْ: مَن عَرَف قدرَ نفسِه، ومن عرَف سرَّ وجوده، ومن عرف, لماذا خلقه الله عزّ وجل؟ ومن عرف عظمة الدار الآخرة وما فيها من نعيمٍ مقيم، ومن عرف أنه المخلوق الأول والمكرَّم والمكلَّف يضع شهواته تحت قدمه، وهذه هي البطولة،
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"
( أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح )
 بعضهم لخّص الحضارة الغربية بكلمتين, فقال: سيطرة على الطبيعة، وبعضهم لخص الحضارة الإسلامية بكلمتين, فقال: سيطرةٌ على الذات، غير المؤمن كالحيوان الجموح، يتحرَّك بلا ضوابط، بينما المؤمن مقيدٌ بالأمر والنهي، لذلك إذا دعته شهوته إلى معصية الله جعل شهوته تحت قدمه .
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا :
 بالمناسبة ما كان الله ليعذب قلباً بشهوةٍ ترَكها صاحُبها في سبيل الله، أيُّ إنسان إذا شعر بنزوعٍ نحو شهوةٍ ما، وترك هذه الشهوةَ لله، فما كان الله ليعذب قلبه بهذه الشهوة، بل إنّ الله سبحانه وتعالى يرزقه حلاوةً في قلبه إلى يوم يلقاه، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:
" من غض بصره عن محارم الله رزقه الله حلاوةً في قلبه إلى يوم يلقاه ".
( ورد في الأثر)
 أيُّ منظرٍ جميلٍ تتوق له النفس، فإذا قلت: إني أخاف الله رب العالمين، أعطاك الله سعادةً تفوق هذه الشهوةَ التي حرمت نفسك منها بملايين المرات، وهذا هو سر الدين، فأنت إنسانٌ لك جسم، ولك نفس، جسمك له طباع، ونفسك لها خصائص، نفسك مفطورةٌ على معرفة الله وعلى طاعته، وجسمك مفطورٌ على الراحة، لذلك كل التكاليف تتناقض مع طبيعة الإنسان، وكل التكاليف تتوافق مع فطرة النفس، فالفطرة متوافقةٌ مع الأمر والنهي، الإنسان لا ترتاح نفسه إلا إذا أطاع الله عزّ وجل، لا ترتاح نفسه إلا بطاعة الله، لكن جسمه قد تتناقض حاجاته مع الأمر والنهي ، الصيام يتناقض مع حاجات الجسد، غض البصر يتناقض مع حاجات الجسد، إنفاق المال يتناقض مع حاجات الجسد، أداء الصلوات يتناقض مع حاجات الجسد، إذًا: هذا معنى قول الله عزّ وجل:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾
( سورة الليل الآية : 5-7 )
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
( سورة النازعات الآية : 40-41 )
 وهذه الشهوة كلما عظَّمتها ورأيتها شيئاً مهمًّا كلما ضعفت طاعتك لله عزّ وجل .
الحكمة التي استنبطها الإمام علي من أحاديث الرسول :
 ويقول هذا الإمام الكبير: " زهدك في راغبٍ فيك نقصان حظ، ورغبتك في زاهدٍ فيك ذل نفسٍ ", عوِّد نفسك أن الذي يقبل عليك أعطه روحك، أعطه اهتمامك، أعطه حبك، أعطه كل ما تملك، والذي يزْوَرُّ عنك كن أنت أشد ازورارًا عنه، لأن النبي عليه الصلاة والسلام فيما ورد عنه يقول:
" لا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثل ما ترى له ".
( ورد في الأثر)
 فإذا صاحبت من يعرفون قدر إيمانك، وأنت مؤمن، ودخلُك محدود فهؤلاء أنت عندهم مكرَّم، إن صاحبت أهل الغنى ممن هم ضعاف الإيمان لا يرون لك قيمةً عندهم، أول سؤال يواجهونك به عن دخلك، فإذا كان دخلك قليلاً ازْوَرُّوا عنك، هم زاهدون فيما عندك من إيمان ومن علم ومن حكمة، يقيمونك في ضوء مالك، إذًا: لا تصحب مَن لا يرى لك مِنَ الفضل مثلَ ما ترى له، مِن هنا فلتُصاحِب المؤمن،
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ " .
(أخرجه الترمذي عن أبي سعيد في سننه )
 إن صاحبت مؤمناً فإنه يعرف فيك الشيء الكثير، يعرف قيمة إيمانك وقيمة ورعك وقيمة علمك وقيمة حكمتك، تشعر أنك معززٌ مكرمٌ محبوبٌ عنده، أما إذا صاحبت أهل الدنيا ازدروك وازدروا إيمانك .
من علامة توفيق المؤمن :
 أحد أسباب التوفيق أن تعرف من تصاحب، وقد ورد في الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري: " لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ولا يدلُّك على الله مقاله", أي هو متصل بالله عزّ وجل، هذا الاتصال من علامته أنك إذا جلست إليه امتلأ قلبك سروراً، أنست به، والدليل على ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءه سيدنا الصديق مع سيدنا حنظلة، وقد رأى الصديق حنظلة يبكي, فقال له: ما لك يا حنظلة ؟ قال: نافق حنظلة، قال: ولمَ يا أخي؟ قال: نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين فإذا عافسنا الأهل ننسى، فقال: أنا كذلك يا أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انطلقا إليه, قال:
" أما أنتم يا أخي فساعةٌ وساعة، أما نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة ولزارتكم في بيوتكم ".
( ورد في الأثر)
 وأنا أقول لكم: واللهِ ليس في الدنيا شيءٌ أسعد مِن أنْ تجالس مؤمناً، وإذا جلست مع غير المؤمن تحس بالقهر، أو بَطِر، أو تكبر، أو مسحوق، أو مقهور، أما إذا جلست إلى مؤمن تصبح منه التفاؤل لأن الأمر بيد الله، هؤلاء الذين تظنونهم أقوياء في العالم كلهم بيد الله، وكلهم في قبضة الله، ونحن ما إن نصطلح مع الله عزّ وجل حتى ينصرنا عليهم، إذًا: " إن زهدك في راغبٍ فيك نقصان حظ ", إنسان يحبك ويقدرك، طَلَبَ زيارتك أتقول له: ليس عندي فراغ؟" زهدك في راغبٍ فيك نقصان حظ، ورغبتك في زاهدٍ فيك ذل نفسٍ, وهذا القول تسمعونه مني كثيراً جداً: " الغنى والفقر بعد العرض على الله ", إنّ الحياة أمدُها قصير، وشأنها حقير، فالغني فيها غنيٌ لأمدٍ محدود، والفقير فيها فقيرٌ لأمدٍ محدود، لكنّ العطاءَ الحقيقيَّ هو ما كان أبدياً سرمدياً، فمن ضعف تفكير الناس أنهم يعطون الدنيا حجماً كبيراً, فيقولون لمن كان غنياً فيها: هنيئاً له، وأنصح لكم في هذا الموضوع أنْ تقرؤوا قصة قارون, قال تعالى:
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾
( سورة القصص الآية : 79-80 )
 وهذا الكلام لنا جميعاً، لو كنت في الدرجة الاجتماعية الدنيا، ولو كان دخلُك مِن أقلِّ الدخول، ولو كنتَ من أدنى الناس، فلا تبتئس إنْ كنتَ في رحاب الإيمـان, فأنت الفائز والمتفوق, والفالح, والناجح, وأن العاقبة لك, وأنك حققت كل النجاحات .

مرتبة الإيمان كما يبينها الإمام علي بن أبي طالب :
 ويقول هذا الإمام الجليل: " الإيمان أنْ تُؤثِر الصدق حيث يضرُّك على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضلٌ على عملك، وأن تتقي الله في حديث غيرك ", طبعاً أحياناً الإنسان تنسجم مصالحه مع الشرع، لا ندري أهذا هو الإيمان، أم هذه مصالحه؟ أي عليه مبلغ من المال دَيْنًا، ومع خصمه سندٌ، وخصمه إنسان مُخيفٌ، فإن لم يدفع هذا المبلغ أقام عليه دعوى، وحَجَزَ على أملاكه، وَشَوَّه سمعته في البلد، فإذا بادر إلى دفع هذا المبلغ نجا وحفظ قدْرَه، وهذا سلوك مدني، أما الأمانة فهي غير هذا، فهذا أمين، لأنه يتعامل مع الله سبحانه .
 لقد ألقيتُ درساً في المسجد قبل عام أو عام ونصف عن الأمانة، وذكرت فيه نقطة دقيقة : أن الأمانة لا تكون أمانةً كما أرادها الله عزّ وجل إلا بحالاتٍ دقيقة وخاصة، منها: أن إنسانًا أعطاك مبلغًا ضخمًا من دون أن يأخذ منك إيصالاً، ومن دون أن يُعلِم أحداً من البشر، حتى أهله، ثم مات فجأةً، فذهبتَ إلى الورثة بعد موته، وقلت لهم: إن هذا المبلغ أمانةٌ لكم عندي فخذوه، هذه هي الأمانة، أي أنك لست مُداناً في الأرض، وبعد أقلَّ من عام عرَّجتُ على هذا الموضوع بسرعةٍ في جامع النابلسي، فجاءتني ورقة مِن أحد الحضور، وأنا واللهِ أعتز بها، وهي عندي في البيت، قال فيها صاحبُها: أنا بِناءً على درس الاثنين في جامع العثمان دفعتُ عشرين مليونًا لجهةٍ لا تملك وثيقةً، ولا معرفةَ لأحدٍ بهذا المبلغ، فكانت هناك شراكة لي مع رب هذه الأُسرة، والشريكُ لم يُعلِم أحداً بهذا المبلغ، وتوفي فجأةً، فقال لي: بناءً على هذا الدرس دفعت هذا المبلغ لأهل الميت، إذًا: هذه هي الأمانة حقًّا .
 العفو، وهو أن يكون هناك إنسان نال منك أشدَّ النيل، ثم أصبح في قبضتك، وبإمكانك أنْ تسحقه، فعفوت عنه، هذا هو العفو، لذلك مكارم الأخلاق شيء ثمين جداً، فالإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك, هذا هو الإيمان, كلما تطابقَ الحديثُ مع العمل كنتَ أقربَ إلى الإيمان، وكلما صار ازدواجية، وجرى الكلام للاستهلاك، وكنتَ في وادٍ آخر، فهذا بعدٌ عن الإيمان .
الغيبة جهد العاجز :
 قال هذا الإمام الجليل: " الغيبة جُهد العاجز ", أي أن الناجح في حياته، الموفَّق هذا ليس عنده وقتٌ ليغتاب الناس، لأن الوقت ثمين، كان أحد علماء دمشق الكبار الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى، إذا مرّ بمقهى, يقول: يا سبحان الله، لو أن الوقت يُشترى من هؤلاء لاشتريناه منهم، أي أن الوقت أثمنُ شيء في حياة المؤمن، واللهِ لو شققتَ على صدر مؤمن لتمنى أن يكون اليومُ عنده مئة ساعة، لأن رأس مالك هو الوقت، فأنت بالوقت تعرف الله، بالوقت تزداد علماً، بالوقت تزداد قرباً، بالوقت تزداد عملاً، بالوقت تصطلح مع الله، بالوقت تتوب، فأنت وقت، أو الوقــت غلاف عملك، ودائماً وأبداً ضع في ذهنك أن أتفه أعمارك هو العمر الزمني، أي المسافة الزمنية بين الولادة والموت، لكن العمر لا يقيَّم بهذه المسافة الزمنية، أو هذه المدة الزمنية، بل يقيم بحجم العمل الصالح، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح, والدليل قوله تعالى:
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
( سورة الأحقاف الآية : 19 )
 أضرب الآن مثلاً، وهو أن الإنسان إذا جلس في حمام، أو في حوض في الحمام، والماء فاتر، يرتاح جداً، ولكن إذا جلس فيه, أيصبح طبيباً؟ لا يصبح طبيباً فهو مستمتع، ففي الدين أشياء ممتعة، لكن لا ترفعك عند الله، لكن هؤلاء الأشخاص العظام الذين تركوا بصمات واضحة في مجتمعاتهم، هؤلاء الذين جدَّدوا الدين، هؤلاء ما اكتفوا بأحوالِ الرخاء، ولا اكتفوا بسلامة الصدرِ ، ولا اكتفوا بانسحابٍ من المجتمع، ولا اكتفوا براحة نفسٍ، هؤلاء بذلوا جهداً، وفتحوا بلادًا، ونشروا علمًا، وأسسوا مدارس، وتركوا آثارًا كبيرة جداً .
 فاحفظوا هذه الكلمة أيها الأخوة، حجمك عند الله بحجم عملك، وكلما ازداد مقامك عند الله قدَّر اللهُ على يديك العمل الصالح، والأدلة كثيرة أيها الأخوة، هذا الذي يأتيه مَلَكُ الموت, ماذا يقول؟
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
( سورة المؤمنون الآية : 99-100 )
 الإنسان إذا جاءه ملك الموت لا يندم إلا على عملٍ صالحٍ فاته، فلذلك: " الغيبة جهد العاجز ", الإنسان التافه العاجز الذي لا ليس عنده شيء يقدمه للأُمة، و ليس عنده شيء يقدِّمه لربنا عزّ وجل، بل شغْلُه الشاغل هو أنْ يقيِّم الناس وينتقدَهم، فضلاً أنّ هناك نهياً قرآنياً واضحاً بألاَّ يغتب:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾
( سورة الحجرات الآية : 12)
 أمَّا التافهون فهم الذين يمضون الوقتَ كلَّه في الحديث عن الناس، مالكَ ولهم؟ اجعلْ شعارَك أنَّ لك مقاماً عند الله بحسب استقامتك وإخلاصك وعملك الصالح، هذا المقام لا يتزعزع لا بمدح المادحين, ولا بذم الذامِّين، قال تعالى:
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾
( سورة الإسراء الآية : 17)
الدنيا مطية الآخرة عند المؤمن :
 قال هذا الإمام: " الدنيا خلقت لغيرها ولم تخلق لنفسها "، ليست هي هدفاً، ليست مقصودةً لذاتها، أيْ إذا أردت الدنيا للدنيا فهي أحقرُ مِن أن تُطلَب، لكنك في الدنيا تعرف الله، وفي الدنيا تعمل الصالحات، وفي الدنيا تصطلح معه، لذلك يوم القيامة إذا دخل المؤمنون الجنة:
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
( سورة الزمر الآية : 74 )
 فالجامعة, هل هي مقصودة لذاتها؟ لا، قد يكون الجو في الجامعة غيرَ مريح، الجوُّ أميلُ للبرد، والمقعد غير وثير، لأنه خشب، وليس للمسند انحناء، بل إنه زاوية قائمة, أما المقعد المريح جداً فهو في البيت، وفي القصور، وفي الفنادق، فالجامعة ليست مقصودة لذاتها، يجب أنْ تتخذها مطيةً للعلم والمعرفة، وكذلك الدنيا، فإنّ الإنسان الذي قصدها لذاتها هو أحمق، والحديث:
" إياك عبد الله والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ".
( ورد في الأثر)
 سمعت عن إنسان عمل مشروعًا لا يرضي الله عزَّ وجل، بل يغضب الله عليه، المشروع قائم على الموبقات، ما إن افتتح هذا المشروع ومضى على افتتاحه أسبوعان حتى مات صاحبُه، وترك ألفاً وثمانمئة مليون، إنه أحمق، وأخطر عمل هو الذي يتجدد إثمه بعد موت صاحبه، لأن الإثم مستمر، إذًا: هو غبي، فالذين تركوا صدقاتٍ جارية، تركوا علماً يُنتفع به، تركوا أولاداً أبراراً، تركوا مشروعاً خيرياً، فالخيرات تأتيهم بعد موتهم إلى أبد الآبدين، فالدنيا خلقت لغيرها، ولم تخلق لنفسها، أي لا بد من الحياة الدنيا، ولا تتوهَّمْ وتركنْ, لِمَن يقول: يا ليت سيدنا آدم لم يأكل التفاحة، لبقينا في الجنة، لا، أليس هناك دليل على أنه لا بدّ أنْ نكونَ على الأرض؟ بلى، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
( سورة البقرة الآية :30)
 في الأرض، حتى لو أنّ سيدنا آدم لم يأكل التفاحة فلا بدَّ أنْ يهبط إلى الأرض، لأن الأرض مزرعة الآخرة، الدنيا مزرعة الآخرة، أي نحن مثل الجامعة تماماً كل الميزات لا تكون لأصحاب الشهادات العُليا إلا إذا مرّوا في هذا الدرب الإجباري، والمتفوِّقون في اختصاصاتهم درسوا في الجامعة، لا بدَّ من الجامعة .
 الدنيا عند المؤمن محبَّبة، ولكن لا يحبها لذاتها، بل يحبها لأنها طريقٌ إلى الجنة، يحبُّ الزواج لأنه بالزواج يعمل الصالحات، بالزواج ينجب أولاداً أبراراً، يحب العمل، لأنه بالعمل يكسب المال وبالمال يرقى إلى الله عزّ وجل، دائماً الدنيا مطلوبةٌ لغيرها لا لذاتها، فإذا طلبتها لذاتها فقد حبط العمل .

أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل :
 وقال: " قليلٌ مُداوَمٌ عليـه خيرٌ من كثيرٍ مملولٍ منه ", هناك قاعدة لتناول الطعام, وهي : "اجلس للطعام وأنت تشتهيه، وقم عنه وأنت تشتهيه ", هذه قاعدة ذهبية تقاس على كلِّ شيء، أي اجعل أعمالك دائمةً، ولو أنها قليلة، فإن هذا الدوام يعطيك الثقة، ويعطيك تراكمًا، ويعطيك ثباتًا، ويعطيك رقيًّا، أما هذا الذي يفور ثم يهمد، يُقبِل على العلم إقبالاً مذهلاً ثم يغيب شهراً، وشخصيات كثيرة من هذا النوع، هذا التذبذب الحاد في علاقة الإنسان مع الله هذا ليس في صالحه ، لأنه حينما يصعد صعوداً مفاجئاً قد لا يستطيع المداومة عليه فيهبط، إذا هبط أصبح معه ردة فعل معاكسة ربما انزلقت قدمه في هذا الهبوط، وربما انتكس، لذلك عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " .
(أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح)
 فإنْ درسٌ من الدروس أعجبك فالزمه، وبعد شهر أو شهرين أو ثلاثة تشعر أنك تقدمتَ وتراكمتْ عندك قناعات، هذه القناعات حملتك على عمل معين، أي كما يقول العامة: الثبات نبات ، وأنت في الإيمان تحتاج إلى ثبات، لك دفع ثابت هذا الدفع أُثبت عليه حتى ترقى عند الله .

أعدى أعداء الإنسان الجهل :
 يقول هذا الإمام الجليل: " الناس أعداءُ ما جهلوا ", الناس العوام أعداء ما جهلوا، وهذا يسمونه مبدأَ العطالة، فالجسم المتحرك يرفض الوقوف والسكون، والجسم الساكن يرفض التحرك ، ففي الفضاء لا يوجد قوة احتكاك، فإذا أعطي هذا القمر سرعةً ابتدائية حافظ عليها إلى ما شاء الله، لكن هو له عمر، فالجسم إذا أعطي سرعة ابتدائية يتحرك ويحافظ على حركته، وإن سكن يحافظ على سكونه، فالأجسام الساكنة ترفض الحركة، والأجسام المتحركة ترفض السكون، وأنت إذا كنت في مركبة وتوقفت فجأةً فأنت ترفض السكون، بل تهجم إلى الأمام، هذا مبدأ فيزيائي، يا ترى, هل الإنسان العاقل مادة؟ فكل إنسان هبط مستواه عن المستوى الإنساني إلى مستوى الجماد يرفض الجديد، يرفض أنْ يصغيَ لدعوةٍ إلى الله عزَّ وجل، فيقول: هكذا نشأنا، هكذا رُبِّينَا، هكذا نحن، هكذا عاداتنا، هذا كلام الجُهَّال, الذي يقول هذا الكلام هبط إلى مستوى الجماد، أي هذا مبدؤه، مبدأ العطالة، إذا كان ساكناً يرفض الحركة، وإنْ كان متحركًا يرفض السكون، أما المؤمن فقد جاءته رسالة من الله عزَّ وجل، يقرؤها، والقرآن رسالة الله للبشر جميعهم .
 فهذا الذي يعادي ما يجهل، أحمقُ كبير، مغرورٌ خطير، الناس أعداء ما جهلوا، يا أخي أصغِ، ولا تكنْ كالذي يحكم على الأمورِ مسبقاً من دون فحص، من دون درس، من دون تأمُّل، من دون دراسة، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
( سورة الحجرات الآية : 6 )
 والإنسان لا ينبغي أن يكون إمَّعة، مَن هو الإمعة؟ الذي ينحرف مع الناس، إنْ أحسنوا أحسن، وإن أساؤوا أساء، وطِّن نفسك على أن تكون حراً، على أن تكون استقلالياً في قراراتك، على أن تكون متحركاً وفق قناعاتك، لا وفق ما يُملى عليك .
 وأشهر قصة رواها البخاري ومسلم، هؤلاء الذين أرسلهم النبي في مهمةٍ استطلاعية، وأمَّر عليهم أنصارياً، وهذا الأنصاري لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل، غاضبهم وغاضبوه، فأمر بإضرام نارٍ عظيمة, وقال: اقتحموها، بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام, قال: لا نقتحمها، لأننا آمنا بالله فراراً منها، فكيف نقتحمها؟ بعضهم قال: طاعة الأمير طاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لما عرضوا الأمر على النبي عليه الصلاة والسلام بعد عودتهم, قال:
" والله لو اقتحمتموها لا زلتم فيها إلى يوم القيامة، إنما الطاعة في معروف " .
( ورد في الأثر)
 أين عقلك؟ العاقل لا يخاف، عقله لا بدَّ من أن يتطابق مع الشرع، فتطابق العقل مع الشرع هو تطابقٌ حتمي، ليس معقولاً أن يرى عقلك شيئاً مخالفاً للشرع، ولا أن يكون في الشرع ما يخالف العقل، لأن الشرع أمر الله ونهيه، والعقل مقياس الله أودعه فيك، فإذا فكرتَ، وأعملتَ عقلك فلن تصل إلى نتيجة مخالفة للشرع، لأنَّ صحيح المنقول موافق لصريح المعقول .
ضع الموت نصب عينيك :
 ويقول هذا الإمام الجليل: " اذكروا انقطاع اللذات، وبقاء التبعات ", الموت يقطع اللذات ، الطعام انتهى زمنه، هناك ولائم فخمة جداً، شيء لذيذ جداً وطيب، لذة الطعام تنتهي عند الموت ، لذة الزواج تنتهي عند الموت، لذة العلو في الأرض تنتهي عند الموت، كل هذه اللذات تنتهي عـند المـوت، ما الذي يبـقى؟ المسؤوليات .
 هذا المال, من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟ لماذا فعلت؟ لماذا تركت؟ لماذا وصلت؟ لماذا قطعت؟ لماذا رضيت؟ لماذا غضبت؟ لماذا أعطيت؟ لماذا منعت؟ لماذا جفوتَ؟, إني أرجو الله سبحانه وتعالى أن أوفَّق في توضيح هذه الفكرة، الإنسان المؤمن الصادق لا يتحرك حركة، ولا يتكلم كلمة، ولا يتصرف، ولا يغضب، ولا يرضي، ولا يعمل عملاً قبل أن يجهِّز لله جواباً يوم القيامة .
 يقول لي: سيدي أقدر أن آخذ لابنتي بيتًا، وأنا على قيد الحياة، أقول له: هل معك لله جواب؟ يقول لي: كيف ذلك؟ فأقول له: كم بنتًا عندك؟ يقول لي: خمس بنات، فما أوضاع الأربع؟ يقول لي: ممتاز، كلُّ أزواجهنّ تجار، أما هذه فزوجها موظف، وبيتهما بالأجرة، وعلى زوجها دعوى إخلاء، الآن معك جواب لله، فاشترِ لها بيتًا، أنْ تخصّ بنتًا في بيت وحدها إذا توفر لديك ثمنُه فلا باس عليك .
 أنت أيهـا المسلم لديك منهج الله عزَّ وجل، جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، فقبل أن تنفِّذ، قبل أن تتصرف، قبل أن تهجر، قبل أن تقطع، قبل أن تصل، قبل أن تتكلم، قبل أن تذم، قبل أن تهاجم، قبل أن تغتاب، أمعك لله جواب؟ أمتأكد أنت من هذا الكلام؟ أسمعتَ أنت، أمْ سمعتَ الناس يقولون شيئاً فقلته؟.
 إذا اقترض إنسان مبلغًا، مثلاً مبلغ مئة ألف، وراتبُه الشهري خمسة آلاف أو ستة في الشهر، ووقَّع سندات موثَّقة، وبيته وُضِعَ في الرهن، ثم سُرِق منه المبلغ، فالمبلغ فوائده انتهت لأنه سرق، فماذا بقي؟ السندات، وهذا مثل ضربتُه تقريباً للفهم، فالموت يُنهِي اللذات، ويُبقِي التبعات، الدنيا لذَّات بلا تبعات، لو أنّ شابًا يتحرك، يذهب ويأتي، فماذا يجري؟ يقترف معصية أو اثنتين أو أربعًا، ويقول: لم يصِبْني شيءٌ من المكروه، فأنت في الدنيا مخيَّر، كمَثَلِ الطالب في أثناء العام الدراسي، خمسون طالباً في الصف، هذا لا ينام الليل، وهذا لا يدرس إطلاقاً، وتقول: مثلي مثله على مقعد الدراسة، ولكن بعد الفحص انظُرْ إلى وضعك، أسماؤكم بالجداول، بعد الامتحان هذا مفصول، وذاك راسِبٌ، أمّا هذا فمعزَّز مكرَّم، فكل إنسان يعيش لحظته، أو يعيش الوقت الذي هو فيه، من دون أن ينظر إلى التبعات القادمة، فهو إنسان أحمق .
إلزم باب مولاك :
 يقول سيدنا عليٌ كرم الله وجهه: " ما كان الله ليفتح على عبدٍ باب الشكر ويغلق عنه باب الزيادة، وما كان ليفتح على عبدٍ باب الدعاءٍ ويغلق عنه باب الإجابة، ولا ليفتح على عبدٍ باب التوبة ويغلق عنه باب المغفرة ", ما أمرك أن تدعوه إلاّ ليجيبك، وما أمرك أن تستغفره إلا ليغفر لك، وما أمرك أن تشكره إلا ليزيدك من فضله .
 أحياناً الإنسان, يقول: أمعقول أنْ أدعو الله عزَ وجل، ولي عدو كبير متربص بي، وأنا ضعيف أمامه؟ أمعقول إذا دعوتُ الله أنْ يخلصني الله منه؟ معقول ونصف, لأنه ما أمرك أن تدعوه إلا ليستجيب لك، فالإسلام مصدرُ تفاؤلٍ للإنسان .
 وإذا قال لك طفل: كم الساعة؟ قد تكون حاملاً بيدك اليسرى حاجة ثقيلة، والكُمُّ ثابت، وتحته قميص، والساعة تغطيها ملابسُك، تجد نفسك تخجل أن تتجاهله، أليس كذلك؟ تضع الحاجة على الأرض، وتغيِّر وضعَ الساعة، وتزيح الكُمَّ، وتقول له: الساعة السابعة مثلاً، طفل سألك سؤالاً فأجبتَه، وأنت تسأل خالقك، وتقول: يا رب، أنا هذا وضعي، علمك بحالي يغني عن سؤالي ، فستجد إجابةً من الله، لكن واللهِ أفقرُ الناس مَن زَهد في الدعاء .
كلما وقع أخٌ في مشكلة كبيرة، أقول له: عليك بقيام الليل، وعليك بالسجود، والدعاء في صلاتك بالليل، وقد جاء في الحديث القدسي:
" إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من طالب حاجةٍ فأقضيها له حتى ينفجر الفجر؟ ".
( حديث قدسي)
إن الله يحب من عبده أن يسأله شسع نعله إذا انقطع,
فعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: " لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ " .
(أخرجه الترمذي عن ثابت البناني في سننه )
 أيها الأخوة، وطِّن نفسك قبل كل عمل, قبل أنْ تقابل إنسانًا، قبل أنْ تجري عملية أيها الطبيب للمريض، قبل إلقاء الدرس أيها المدرِّس، قبل عقد صفقة أيها التاجر، قبل كل أمرٍ ذي بالٍ, قل: يا رب أنا لا أعلم، وأنت تعلم، أنا لا أقدر، وأنت تقدر، وفِّقني يا رب، وألهمني الصواب، أنطقني بكلامٍ يرضيك، أعنِّي على طاعتك، احفظني يا رب أنْ تزل قدمي .
 هذا هو حال المؤمن، كلما تحرك لأعماله، وقبل أنْ يخرج من بيته فلا بدَّ مِن الدعاء، في بالبيت مشكلة, فلا تقل: أنا أعالجها، بل قل: يا رب ألهمْني الحكمة، أحياناً تطلِّق زوجتك في ساعة غضب، ثم تطرق أبواب المشايخ، فيقولون لك: طلقت، وإنّ الذي أعطاك فتوى فأنت لست مرتاحًا لها، وقد يشدِّد عليك ويخوِّفك، ويغلق دونك البابَ، فالإنسان قبل أن يتورط لو دعا الله عزَّ وجل لَمَا وصل إلى هذا المستوى .
تفسير الزهد في رأي الإمام علي بن أبي طالب :
 قال هذا الصحابي الجليل الإمام عليٌ كرم الله وجهه: " الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن الكريم، قال: لكي لا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم ", وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
" لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ " .
(أخرجه أحمد عن أبي الدرداء في مسنده )
 " لكي لا تأسوا على ما فاتكم ", الأمور تجري بالمقادير، الإيمان بالقدر نظام التوحيد، الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن، كلُّ شيءٍ أراده الله وقع، وكلُّ ما وقع أراده الله، مشيئة الله عزَّ وجل متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته بالخير المطلق، هذه حقائق ثابتة، فلذلك, " لكي لا تأسوا على ما فاتكم, ولا تفرحوا بما آتاكم " .
 الإنسان بين الندم الساحق, وبين الخفة الرعناء التي تأتي بعد العطاء، خفته بعد العطاء دليل جهله، ويأسه دليل جهله، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام في خطبةٍ رائعةٍ جداً ألقيتُها على مسامعكم آلاف المرات، يقول:
" إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عُقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عِوضًا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي ".
( ورد في الأثر)
 هذه هي الحقيقة، فمَن عرَفها لم يفرح برخاء، لأنها مؤقتة، ولم يحزن لشقاء، لأنها موقتة ، لذلك يقول هذا الإمام الجليل: " الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن الكريم، قال: لكي لا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم " .
لا تغرنك الدنيا يا مسكين فإنك ميت حتماً :
 يقول هذا الإمام الجليل: " الرزق رزقان طالبٌ ومطلوب، فمن طلب الدنيا، طلبه الموت حتى يخرجه عنها ", حدثني أخ يسكن بشارع برنية، في بناية مِن اثني عشر طابقًا، قال: جاء إنسان واشترى شقتين، البيتين مكسوَيْن على التمام، قال لي: والله كسَّر البلاط كلّه، وكسّر السراميك، وغيَّر كل شيء في هذين البيتين، وأحدَثَ ترتيباتٍ أخرى، البلاط إيطالي، الألمنيوم مِنَ البرونز، أي أنه عمل ترتيبات جديدة في البيت، قال لي: طيلةَ سنتين بالتمام والكمال، وهو يكسو هذين البيتين، رغم أنهما مكسوان كسوةً مَن الطراز الأول، يقسم بالله أن هذا الإنسان بعد إن انتهى من كساءِ البيتين بأسبوع انتهى أجله، فهذه هي الدنيا, قال: " الرزق رزقان طالبٌ ومطلوب، فمن طلب الدنيا طلبه الموت " .
 أخ آخرُ يبيع مفروشات، قال لي: جاءني شخص غريبٌ أمرُه، يريد غرفة نوم، بدأ مِن الخشب، فأخذنـا له خشبَ جوز، وتركناه ينشف سنتين، بعد ذلك طلب الكتلوكات، ستة أشهر حتى انتقى موديلاً، بدأنا في الشغل، وكل يوم يراقب العملَ، قال لي: ذات مرة انبطح تحت التخت ونظـر، وقال: هل به عقدة؟ وكان فيه عقدة، القصة طويلة، بقينا سنة ثانية نشتغل بغرفة النوم إلى أن انتهت، وعلِقنا بالمسكات ستة أشهر ثانية، بعد ذلك انتهت الغرفة، ووضعناها في الصالة، وقدِم ناسٌ كثيرون لكي يشتروها، فنقول: هذه الغرفة مباعة، تعبَ منها كثيرًا، عليها طلـب، وأخيرًا, قال له: تعال وخذْها, قال له: حتى أدهن الغرفة، لكي يدهنها يحتاج شهرًا أيضاً، أول وجه معجون، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، السادس، بعد ذلك قال له: الخميس سوف آخذها، جرتْ مشادة، قال له: الخميس إذا لم تأخذها سوف أبيعها، اتّصل به يوم الخميس، قال له: دعْها أسبوعًا آخر، وسوف آخذها، فوافقه على ذلك، ثم اتّصل به في الخميس الثاني، فسمع عند اتصالهِ ضجة في البيت، فقال لزوجته: يا أختي غرفة النوم، قالت له: مات صاحبها, هذه هي الدنيا، إنه يريد الدنيا، لكنّ الموت يطلبُه، حتى يخرجه منها، ومن طَلب الآخرة، طلبته الدنيا، يأتيه رزقه وهو راغـم، ومَن طلب الآخرة طلبته الدنيا، الله ييسر له أموره حتى يستوفي رزقه منها، كلام رائع جداً .
 والكلمة الشهيرة التي أقولها لكم دائماً: " من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومن آثر أخرته على دنياه ربحهما معاً ".
هذه زفرة الحسرة يوم القيامة :
 قال: " إن أعظم الحسرات يوم القيامة، حسرة رجلٍ كسب مالاً في غير طاعة الله، فورثه رجلٌ أنفقه في طاعة الله، فدخل به الجنة، ودخل الأول به النار ", شيء مخيف يعمل خمسًا وخمسين سنة، يجمع ثروة طائلة، كلها مِن مصادر مشبوهة بالحرام، والكذب، والغش، والخداع ، ويموت ويذهب إلى جهنم، ثم يأتي الوريثُ فيأخذ هذا المال جاهزًا، ينفقه في طاعة الله فيدخل به الجنة، هذا أندم إنسان، وأندمُ الناسِ رجلاً دخل بعلمه الناس الجنة ودخل هو بعلمه النار .
 وذات مرة قرأت ثلاثة أدعية أعجبتني في كتابٍ في التصوف:
 الدعاء الأول, يقول: " اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني مني" .
 يا ربي أنا أعوذ بك أن أعلم الناس آية قرآنية، أو حديثًا شريفًا، ثم يكون المتعلِّم أسعدَ مني، يتعلمها إنسان، ويطبِّقها، ويستفيد منها، ويتألَّق، وأنا لم أطبِّقها فأخسر .
 والدعاء الثاني: " اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحدٌ سواك ", كلمة حق لكن يلتمس بها رضى الناس .
 والدعاء الثالث: " اللهم إني أعوذ بك أن أتزيَّن للناس بشيءٍ يشينني عندك " .
( أدعية مأثورة )
 لا أرغب أنْ أكون قصةً، انظروا فلانً فعل كذا وكذا، فانتهى حاله إلى كذا وكذا، أعوذ بالله أنْ أكونَ قصة، وقالةَ سوءٍ، فالله سبحانه يقول:
﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾
( سورة سبأ الآية : 19 )
 وهذه كلمة موجزة، أذكرها لكم: هناك كراس، وخشبة مسرح، إذا كنتَ مستقيمًا فلك محل مع المشاهدين، وإذا لم تكن مستقيماً تنشَدُّ إلى الخشبة، فتأخذ عدّةَ لكماتٍ فوق المسرح، وتصبح قصة، وتصبح مُشَاهَــد، هناك من يُشَاهِدك وأنت المُشَاهَد، فإذا أردت أن تبقى مع المشاهدين فاستقم كما أمر الله، وإذا أردت أن تكون قصةً وأردت أن تكون حدثاً مثيراً يتحدث الناس به، فلك ألا تستقيم عندئذٍ، الآن انظروا إلى الحوادثِ في البلد، جريمة وقعت، تكون بسبب معصية كبيرة، هذه الجريمة يتناقلها الناس، وتكتبها الصحف، تصبح حديث المجالس إلى سنة، فأبطال الجريمة ومن حولهم أصبحوا خبراً، فأنت إذا كنت مستقيماً فلك مكانٌ مع المشاهِدين، فإن لم تكن كذلك فالأمر خطير .
لا تشكو همك إلا لمؤمن :
 يقول هذا الإمام الجليل: " من شكا حاجةً إلى مؤمنٍ فكأنما شكاها إلى الله، ومن شكاها إلى كافر فكأنما اشتكى على الله ", هذه نصيحة لأخواننا الكرام، لك قريب دينُه رقيق، اتجاهه غير إسلامي بل هو علماني، تفكيره غير سليم، وقعت في مشكلة، لا تحدِّثه بها إطلاقاً، لأنه سيقول لك: ألم أقل لك؟ قلت لك: إن هذا الطريق لا تمشي فيه، ويشمت بك، تكون حينئذٍ قد سلَّمته رقبتك، سلَّمته معلومات ينفث بها سمومه، فإياك أن تشتكي إلى كافر، إذا كنت متضايقًا جداً فاشتكِ إلى مؤمنٍ ولا حرج، شكواك للمؤمن كأنك تشكو إلى الله عزَّ وجل، فيمكن للإنسان أنْ يبوح فيرتاح، لكن اجعل هذا البوح إلى مؤمن، أما أن تبوح بمشكلتك إلى الله فهو الأكمل، قال تعالى:
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
( سورة يوسف الآية : 86)
 
 هناك أخ أرجو له المغفرة والجنة، أصيب بمرض خبيث، وأَعلمه مستقيماً، وأَعلمه مؤمناً، تقول زوجته: ثلاث سنوات ما قال كلمة تغضب الله، وهو يتحمّل أشدّ الآلام، هذا هو المؤمن, قال تعالى:
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة يوسف الآية : 86 )
عبدي أنفق أنفق عليك :
 قال: " إن لله تعالى عباداً يختصهم الله بالنِعَم لمنافع العباد فيقرها بأيديهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم ثم حولها إلى غيرهم ", أحيانا تجد شخصًا منعمًا عليه، لكنه مِعطاء، إذا غيَّر سياسته، فَمَالَ لقبضِ يده، تذهب هذه النعم من بين يديه، قصة أقولها لكم كثيراً: بيت من بيوتات دمشق الكبير فيه شجرة ليمون، تحمل أربعمئة أو خمسمئة ليمونة سنويًّا، شيء عجيب! ما مِن إنسان يطرق هذا الباب، ويقول: عندكم ليمونة؟ فتعطيه ربةُ البيت، ثم توفيت، وهي كبيرة في السن، وبقيتْ زوجةُ ابنها الشابة في الدار، فمَن طرق الباب يطلب ليمونةً تصدُّه خائبًا، وفي السنة الثانية يبست الليمونة .
 هذا مثل مادي بسيط، عندك نعمة أَقَرَّها الله عزَّ وجل في يديك فابذلْها، فإذا منعتَهَا حوَّلَها إلى غيرك، أحياناً يكون أخ رزقته كثيرة لكنه يرعى أخوته كلهم، سر الغنى أنه يعطي أخواته جميعاً، حينما تقول له زوجته: الله ما كلَّفك بهم فاتركْهم، فإذا استجاب إلى توجيهات زوجته العزيزة، خفَّ الرزقُ شيئًا فشيئًا حتى لم يكفِه دخلُه، يقول: أين؟ والله كنت في بحبوحةٍ كبيرة، لقد كنتَ تعطي، واللهُ جعل رزقك ورزق من تعطيهم عن طريقك، توقف العطاءُ, يقول لك: ليس لك عندي عطاء .
لا مؤاثرة في الخير :
 يقول هذا الإمام الجليل رضي الله عنه: " افعلوا الخير, ولا تحقروا منه شيئاً فإن صغيره كبير, وقليله كثير، ولا يقولن أحدكم: إن أحداً أولى بفعل الخير مني، فيكون والله كذلك ", قال تعالى:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
( سورة المطففين الآية : 26 )
 وفي الإسلام قاعدة أساسية: " لا مؤاثرة في الخير"، أمٌّ لها عدّةُ أولاد، لو قال أحدهم: أنا سأفسح المجال لأخي لكي يخدمها، هذا كلام خلاف الشرع، أنت آثرتَه في مرضاة الله، هذا لا يجوز إطلاقاً، لا مؤاثرة في الخير، والخير كله في المؤاثرة، فأن تؤثر أخاك على نصيبك مِن الله فهذا شيء غير مقبول إطلاقاً .
ما معنى الحكمة ؟
 أيها الأخوة, مع الدرس السادس من دروس سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، ولا زلنا نقـف عند حكمه، وقد يسأل سائل: ما معنى الحكمة؟ هي عبارة عن تجارب إنسانية طويلة، كُثِّفت في كلمات، في مجال العلوم شيءٌ اسمه البحث العلمي، البحث العلمي قد يكون في صفحتين أو في صفحةٍ واحدة، وقد يكون في معادلةٍ واحدة، وقد يستغرق من الجهد البشري ما يزيد عن خمسين عاماً، أو أربعين عاماً، ملخَّص هذه الدراسات, وتلك التجارب, وهذه الملاحظات وتلك الإحصاءات خلال خمسين عاماً تكتب في صفحةٍ واحدة، أيعقل أن صفحةً واحدة استغرقت كل هذه الجهود؟ الحقيقة أن هذه الصفحة مكثفةٌ جداً، وكذلك الحكمة، الحكمة كلامٌ موجز وبليغ، لكن الإنسان خلال حياته كلها يخطئ ويصيب، وفي نهاية المطاف يستنتج حقائق يصبّها في حكمٍ بليغة وموجزة، فإياكم أن تستهينوا بهذه الحِكم، إنها خلاصة معرفةٍ بالله، وخلاصة تطبيقٍ لمنهجه ، وخلاصة تفاعل من معطيات البيئة, ومن أشخاصٍ, ومن ظروفٍ, ومن أشياء كثيرة .
 فهذا الصحابي الجليل كان حكيماً، وقد وصفه النبي عليه الصلاة والسلام, فقال: " أنا مدينة العلم وعليٌ بابها " .
من كمال العقل ورشده :
 اسمعوا مني هذه الحقيقة، كلما ارتقى الإنسان يستفيد من تجارب الآخرين، وكلما هبط مستواه لا يستفيد من هذه التجارب، هناك مبدأ يقول: " الإنسان لا يتعلم إلا من تجربته الشخصية " فمهما استمع إلى حقائق أو إلى حِكم أو إلى ملاحظات أو إلى توجيهات فإنه لا يتعلّم تعلماً حقيقياً إلا إذا عانى معاناةً مؤلمةً، هذا القول ربما استُنِبط من واقع معظمِ الناس، لكن نخبةَ الناس، لكن الصفوة من الناس تستطيع أن تستفيد من تجارب الآخرين، أي أن الإنسان أحياناً لا يتعلم إلاّ بعينه، لكن إذا ارتقيت تتعلم بعقلك، فقد تدرك الخطر قبل أنْ يقع، وتأخذ حذرك منه، أما الذي لا يتعلم إلا إذا واجه الخطر فهذا إنسان ضعيف العقل .
إليكم مغزى هذه القصة :
 القصة التي أرويها على مسامعكم كثيراً, وهي قصة السمكات الثلاث، الكيسة والأكيس منها والعاجزة، الكيسة هي العاقلة، والأكيس الأعقل، والعاجزة الغبية، فحينما مرّ بهذا الغدير صيادان تواعدا أن يرجعا, ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك، سمعت السمكات قولهما، أما أكيسهن فإنها ارتابت وتخوَّفت, وقالت: العاقل يحتاط للأُمور قبل وقوعها، ولم تعرج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت .
 فمَن هو العاقل؟ هو الذي يتخيل الخطر قبل أن يواجه الخطر فإنه يتخيله تخيلاً، ومَن هو الطالب الذي ينال الدرجة الأُولى على القطر في الشهادة الثانوية؟ هو الذي يتخيل الامتحان قبل سنوات ثلاث، أي من الصف العاشر، وبالمناسبة إن التخيل من خصائص الإنسان، وهي نعمةٌ كبيرةٌ أنعم الله بها علينا، وبإمكان خيالك أن يصل إلى الخطر قبل أن تصل إليه أنت، فالعاقل هو الذي يتخيل المستقبل فيتكيف معه منذ الوقت الحاضر، هذا هو العاقل, وأما الكيِّسة فمكثت في مكانها، دائماً الأقل عقلاً يرجئ ويسوِّف، غداً أتوب، غداً أُهيئُ البيت لفصل الشتاء، يقول لك: الدنيا صيف فيأتي البرد فجأةً، وكل شيء في البيت لا يصلح لفصل الشتاء، الأقل عقلاً يرجئ ويرجئ ويسوّف، فبقيت في مكانها حتى عاد الصيادان، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها، فإذا بالمكان قد سُد, فقالت: فرَّطت، وهذه عاقبة التفريط، غير أن العاقلَ لا يقنط من منافع الرأي، وتعلمون النتيجة، ثم إنها تماوتت فطفت على وجه الماء، وأخذها الصياد وأمسكها بيده، فوضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر فنجت، وأما العاجزة فلم تزل في إقبالٍ وإدبارٍ حتى صيدت .
 يمكن أن أقول لكم: العاقل يعيش مستقبله، والأقل عقلاً يعيش واقعه، والغبي يعيش ماضيه، فإذا كنت عاقلاً يجب أن تعيش في مستقبلك، وأخطر حدثٍ في مستقبلنا هو حدث الموت، مغادرة الدنيا إلى أين؟ ماذا في القبر؟ ماذا بعد الموت ؟.
هذا هو الإنسان المستدرج :
 يقول هذا الصحابي الجليل سيدنا على بن أبي طالب كرم الله وجهه: " كم من مستدرجٍ بالإحسان إليه، ومغرورٌ بالستر عليه، ومفتونٌ بحسن القول فيه، وما ابتلى الله سبحانه وتعالى أحداً بمثل الإبلاء له ", إنسان أحسن الله إليه أتم عليه الصحة، رزقه رزقاً وفيراً، أعطاه قوةً كبيرةً، رزقه زوجةً وأولاداً، يقول هذا الإنسان: لولا أنّ الله يحبني لما أكرمني؟ هذه مقولةٌ خاطئة، لا تستطيع أن تقول هذا الكلام إلا إذا نظرت إلى عملك، فإن كان على منهج الله عزَّ وجل فأنِعْم وأكرِمْ بهذا الكلام، بإمكانك أن تعدّ النعمَ التي تكرّم الله بها عليك نعماً حقيقيةً، أما مع الصحة أن تكون هناك معاصي، مع الصحة تجاوزات، مع الصحة الدخل المشبوه، وتقول: الصحة مِن نِعَمِ الله علي، لا، فأنت مستدرَج، ليست هذه نعمة، إنما هي استدراج .
 بالمناسبة أيها الأخوة, ما من إنسانٍ إلا وهو ممتحنٌ في الحياة الدنيا مرتين، مرةً بما أعطاه الله، ومرةً بما حرمه الله، فالذي أعطيت إياه أنت ممتحنٌ به، والذي سُلب منك فأنت ممتحنٌ به، أعطاك صحةً، أحد مواد امتحانك الصحة، أعطاك مالاً، أحد مواد امتحانك المال، حرمك المال، حرمانك من المال امتحان، ماذا تفعل؟ أتأكل مالاً حراماً؟ أتسخط على قضاء الله وقدره؟, وطِّنوا أنفسكم على أنكم ممتحَنون, لهذا قالوا: " الحظوظ توزع في الدنيا توزيع ابتلاء لتوزَّع في الآخرة توزيع جزاء " .
 إن كنتَ ثريًّا فأنت لست على الله كريماً، ولست وضيعاً، هذا أمرٌ حيادي، لا تعرف إذا كان هذا إكراماً أم نقمةً إلا بإنفاقك للمال، فالحظوظ كلها حيادية، وهي في الوقت نفسه درجاتٌ ترقى بها، أو دركاتٌ تهوي بها .
 والشيء الذيُ يضِحك أنّ أهل الغنى، وأهل القوة، وأهل الوسامة، هؤلاء يتوهمون أن الله يحبهم كثيراً، ولولا أنه يحبهم لما جعلهم بهذا الوضع، وكلمة العوام الشائعة أي أن الله عزَّ وجل إذا أحب عبده أرجاه ملكه, يذهب يسافر إلى بلاد أجنبية، يرتكب كل المحرمات، ينسى ربه، ينغمس في الشهوات المنحطة، وفوق هذا يقول: إذا الله أحب عبده أرجاه ملكه, هذا كلام مضحك, " كم من مستدرجٍ بالإحسان إليه ومغرورٌ بالستر عليه "، الله ستِّير، وهو من أسمائه الحسنى، لكن هذا السِّتر ليس إلى مالا نهاية، فإذا استخف الإنسانُ بستر الله عزَّ وجل يفضحه في عقر داره، إذا استخف بستر الله عزَّ وجل يفضحه بطريقة غريبة، هذا الذي يُكِنُّه يظهر للملأ، هذا الذي يخفيه يشيع عنه، إذًا: " ما أسر عبدٌ سريرةً إلا ألبسه الله ثوبها " .
 لما ربنا عزَّ وجل يعاقب الإنسان، قد يسأل: لماذا عاقبني ربي؟ أما إذا أكرمه وليس بالمستوى المطلوب، فهذا استدراج، وربنا عزَّ وجـل قال:
﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾
( سورة القلم الآية : 44-45)
 لماذا قال متين؟ متين كلمة يعرفها أخوتنا الفيزيائيون، المتانة صفة في الجسم تقاوم قوى الشد، أما القساوة صفة في الجسم تقاوم قوى الضغط، الإسمنت يتحمل السنتيمتر مكعب فوقه مئتي كيلو ، وإذا كان صب بطريقةٍ صحيحةٍ أصولية يتحمل خمسمئة كيلو، لكن هذا السنتيمتر مكعب للإسمنت لا يتحمل خمسة كيلو على الشد، خمسة كيلو ينقطع، من خمسمئة كيلو إلى خمسة، لذلك الإسمنت لا بد له من تسليح بالحديد، كي يقاوم قوى الشدِّ لا قوى الضغط، أحيانًا تجد دعامة حاملة بناء ثلاثة عشر طابقًا، أستغرب، حجم الدعامات قليل، وتحمل بناءً ضخمًا، الإسمنت يتحمل قوى الضغط، ولا يتحمل قوة الشد، وربنا قال:
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾
( سورة القلم الآية: 45)
 كأن كيد الله عزَّ وجل حبلٌ مرخى، فهذا الحبل المُرخى يظنه الإنسان أنه ليس حبلاً، هو طليق يقول لك: أين الله؟ يأكل المال الحرام، ينهش أعراض الناس، يظلم، يتكبر، ينتقل من مائدة حمراء إلى مائدة حمراء، من ليلة حمراء، إلى ليلة حمراء أخرى، ومن مائدة خضراء إلى مائدة خضراء غيرها، ومن مقصف إلى ملهى، ويقول لـك: أين الله؟ إنّ كيدي متين، حينما يأتي أمر الله عزَّ وجل إذا هو في قبضة الله لا يلوي على شيء .
 أيها الأخوة, " كم من مستدرجٍ بالإحسان إليه مغرورٌ بالستر عليه، ومفتونٍ بحسن القول فيه، وما ابتلى الله سبحانه وتعالى أحداً بمثل الإبلاء له ", فأنا لا أكتمكم أن المصيبة الآن بعد هذا الشرح أقل خطرًا مِن العطاء، لأن الإنسان بالمصيبة يتنبه، ماذا فعلت حتى ساق الله لي هذه المصيبة؟ فإذا كان وضعُ الإنسان وسطًا، وعنده مجموعة متاعب، واللهُ يحاسبه حسابًا عسيرًا، ويتتبعه على أدقّ الخطرات، فهذا من كرامته على الله .
من أبواب الرزق :
 قال: " إذا أملقتم فتاجروا بالصدقة ", إذا كان الإنسان يشكو من قلةٍ في دخله، هناك مجموعة وصفات، مجموعة وسائل تنمي هذا الدخل:
1- استقم على أمر الله، لقول الله عزَّ وجل:
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾
( سورة الجن الآية : 16-17)
2- كن أميناً أمانةً مطلقة:
 فالأمانة لا تتجزَّأ، سكرةٌ صغيرة، وأنت في محل سكاكر، وهناك عشرات، بل مئات، بل ألوف الأوزان والأنواع، هذه السكرة لا تأكلها بغير حق، لأن الأمانة لا تتجزأ، قال عليه الصلاة والسلام:
" الأمانة غنى ".
( ورد في الأثر)
 إذا كنت أميناً، ووَثِق الناس بك، أعطوك كل ما تريد، فإذا شعروا أن فيك خيانةً، أثمن وأعظم رأس مال تملكه، ما هو؟ أن يثق الناس بك, ثقة الناس لا تأتي باليسير، الإنسان يمر بتجارب كبيرة جداً، ويمتحن امتحانات كبيرة جداً، إلى أن يستقر في أذهان الناس أنه أمين، وأنه كفؤ موثوق، لذلك إذا أملقتم، يعني إذا افتقر الإنسان، فأول شيء عليه أنْ يستقيم، لقول الله عزَّ وجل:
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ﴾
( سورة الجن الآية : 16-17)
3- أن يصل الرحم:
 لأن صلة الرحم تزيد في الرزق .
4- أنْ يتقن عمل:
 لأن إتقان العمل جزءٌ من الدين، وهو سببٌ في ترويج حرفتك وصناعتك ودخلك، فماذا بقي؟ الصدقة، استمطر الرزق بالصدقة، كلما ضاقت بك الأمور تصدق على نية أن ترزق بهذه الصدقة، وهذا ما قاله الإمام عليٌ كرم الله وجهه: " إذا أملقتم، فتاجروا بالصدقة " .
علاج الجسد :
 يقول هذا الإمام الجليل: " صحة الجسد من قلة الحسد ", الحسود عليه ضغوط نفسية، يسميها العلماء الآن الشدة النفسية، أول سؤال لمريض القلب: هل تعاني مشكلة؟ لأن هذه المشكلة تسبب جلطة، هذه المشكلة تسبب ارتفاعًا في ضغط الدم، هذه المشكلة تسبب ارتفاعًا في السكر، هذه المشكلة تسبب ارتفاعَ آلامٍ في العضلات، الآن الطبُّ الحديث يبحث عن الأسباب النفسية للأمراض العضوية، فهذا الصحابي الجليل, يقول: " صحة الجسد من قلة الحسد ", لكن صحة النفس، ما أساسها؟ التوحيد، فالتوحيد مريح، الدليل القرآني:
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾
( سورة الشعراء الآية : 213)
 إذا أيقنت أن لهذا الكون إلهاً واحداً، وهو سميعٌ، بصيرٌ، عليمٌ، حكيمٌ، غنيٌ، قويٌ، عادلٌ ، رحيمٌ، وأن أمْرَك كلَّه عائدٌ إليه ترتاح, قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
( سورة هود الآية : 123)
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾
( سورة الزخرف الآية: 84)
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾
( سورة الأعراف الآية : 54)
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾
( سورة الزمر الآية : 62)
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
( سورة هود الآية : 56)
﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
( سورة الكهف الآية : 26)
 إذا أيقنت هذا اليقين فعلاقتك مع الواحد الأحد فقط، كل هؤلاء صور، وكل هؤلاء الأشرار المخيفون عِصِيٌ بيد الله, صدق القائل:
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجب نا فإنا منحنا بالرضى مَن أحبنا
ولذ بحمانا واحتمِ بجنابنـــا  لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
 أيها الأخوة, إنّ المؤمن الصادق المستقيم يتمتّع بنعمةٍ، واللهِ لا تعدلها نعمة، إنها نعمة الأمن، قال تعالى:
 
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
( سورة الأنعام الآية : 81-82)
 أربع كلمات أقولها لكم: الطب النفسي أساسه التوحيد، والطب الطبيعي أساسه بذل الجهد ، والطب الوقائي أساسه الاعتدال في كل شيء، والطب العلاجي أساسه استعمال الدواء .
شيئان متناقضان :
 يقول هذا الإمام الجليل: " مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة ", الإنسان في الدنيا إذا كان غارقاً في شهواته، هذه حلاوةٌ ولا شك، و لكن تعقبها مرارةٌ إلى يوم القيامـة وإلى أبد الآبدين، بينما لو أنك تحمَّلت بعض متاعب الإيمان تمتعت وسعدت بجنةٍ عرضها السموات والأرض إلى أبد الآبدين .
 هناك أمثلة في الدنيا، لو أنّ إنسانًا درس دراسة عالية جداً، واختص اختصاصًا نادرًا، ودرس ثلاثة وثلاثين سنة، ولا ينام الليل، ودخل امتحانات، وقدَّم فحوصًا، وخضع لتجارب، وخضع لأمزجة مدرسين متنوعة، وكان همُّه الأولُ أن ينجحَ في الامتحان، ليحتل منصبًا رفيعًا، أو مهنة راقية، ليأتيه دخلٌ وفير بجهدٍ قليل، هذا الدخل الوفير مع الجهد القليل ثمنُه الليل الطويل، وإذا التفــت الإنسان إلى أيام دراسته، يأتي عليه وقت يرى أن كل الناس هو أفضل منهم، فقد أضر بآخرته, فلذلك عَن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
" مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى " .
(أخرجه الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري في مسنده )
عرفت الله بنقض العزائم :
 وهذا الإمام العظيم يقول قولاً رائعاً: " عرفت الله سبحانه وتعالى بنقض العزائم " الإنسان قد يخطط، ويدرس الأمر دراسة جيدة، ويغطي كل الاحتمالات، يأخذ بكل الأسباب، يعتمد على قوته, وعلى ذكائه, وعلى أعوانه, وعلى ماله, وعلى رأي من حوله، وينسى الله عزّ وجل، أي أنه يعتمد على هذه الأسباب كلها، فلو أن الله عزّ وجل حقق له مراده, لقال لك: أين الله؟ مثل هذا الإنسان الذي يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها، مثل هذا الإنسان يعالج بنقض هذه العزائم كلها، فتجده على الرغم من كل الاحتياطات التي أخذها، ومن كل الأسباب التي فعلها، ومن كل التدابير التي دبَّرها يصابُ بفشلٍ وإخفاقٍ من جهةٍ لم تخطر له على بال .
 أنا أعرف رجلاً لا داعي إلى وصف مزاياه الدنيوية، بلغ إنْ صحّ التعبير إلى قمة النجاح في الدنيا، مِن عشرين إلى ثلاثين مؤسسة تجارية وصناعية مِلْكُه الشخصي، موظفون يتحركون بإشارةٍ منه، المركبات، الصحة الطيبة، فتشعر أنّ الدم يكاد أن يخرج من جلده من شدة تورده، والطعام الذي يأكله، والقوة التي يتمتع بها، والأنصار مِن حوله، أعرفه جيداً، اعتمد على ذكائه، وعلى أعوانه، وعلى اتصالاته، وعلى أمواله المنقولة وغير المنقولة، دخل الحمامَ فرأى القاطع الكهربائي غير صالح، فجاء بإنسان يصلحه له، فقال له: سيدي إنه منخفضٌ، هل أرفعه لك ؟ فقال له: ارفعه، في اليوم التالي تعطلت الكهرباء في بيته فجاء ليحرك القاطع الواصل، ولكن القاطع صار أعلى من طوله فطلب كرسيًا من ابنته في البيت، فلما صعد على الكرسي اختل توازنه، ودخلت إحدى أرجل هذا الكرسي في مقعدته، أُخذ إلى المستشفى، وبقي فيها عشرين يوماً ، زاره أكثر من عشرين طبيباً، وقد انتهى أجلُه بهذه الحادثة، وأصيب بتسمم في الدم لأتفه سبب، قال سيدنا عليٌّ: " عرفت الله سبحانه وتعالى بنقض العزائم " .
 هذا الكلام خطير جداً، فحينما تأخذ بالأسباب وتعتمد عليها فلا بدّ أن يكشف اللهُ لك الحقيقة، أن هذه الأسباب التي اعتمدت عليها والتي عبدتها من دوني لن تنفعك أبداً, وسوف تفاجأ بأن نقضها على الله يسير: " عرفت الله سبحانه وتعالى بنقض العزائم " .
أي الأعمال أفضل ؟
 قال: " أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه ", علمونا في الجامعة أن الطرق التربوية الصحيحة تقاومها النفس، الآن في الدراسة أهون شيء هو أن تفتح الكتاب، وتضجع على السرير وتقرأ، يقول لك: أنهيت سبعين صفحة، وهذا شيء جميل، أعد لنا صفحة، لا تتذكر شيئًا، لأنه يقرأ، ويقلب الصفحات، هذه الطريقة سهلة جداً، وتحبها النفس، لكن الطريق الصعبة هي أن تفتح الكتاب، وأن تمسك بالقلم والمسطرة، والدفترُ أمامك، والفكرة الدقيقة تضع تحتها خط، ولها رقم، وهذه الفقرة تلخَّص في الهامش، وهنا أُسلوب رائع أن تشير بالقلم الأحمر إلى هذه الجملة الهامة، الدراسة بهذه الطريقة تقاومها النفس، تحتاج إلى جهد كبيرٍ، لكن هذه هي الدراسة المجدية فقط، أما تلك القراءة السريعة فلا غناء فيها، العلماءُ أجروا بعض التجارب، فوجدوا أنَّ ثلاثة وتسعين في المئة مما قرأته قراءةً سريعة تنساه بعد أُسبوعٍ واحد .
 أخواننا الطلاب, هذه القراءةُ مضيعةٌ للوقت، فالطرق التربوية الصحيحة تقاومها النفس، اجلسْ مثلاً أمام آلة كاتبة بأصبع واحد، لو تضرب ثلاثين سنة فإنك تحتاج لإنجاز الصفحة الواحدة ساعة، أو ساعة ونصف، بينما إذا دخلت مكتب تعليم الضرب على الآلة الكاتبة فممنوع أنْ تكتب بإصبع واحد، بل عليك أنْ تكتبَ بالعشرة، يا أخي ضعت، بل إنَّ الطريقة الصحيحة أنْ تكتب بالعشرة، اذهب إلى ضاربي الآلة الكاتبة المحترفين، ترى شيئًا عجيبًا، ترى أنَّ عينه على الورقة فقط، والصفحة الكبيرة تأخذ من وقته ثماني دقائق فقط، فالطرق التربوية الصحيحة دائماً تقاومها النفس، والنفس تشبه عملَ إنسانٍ وضع الأُنبوبَ بالصنبور، وفتح ليسيل الماءُ، لكن في الأنبوب ثقب، فإنَّ الماء يخرج من الثقب، ولا يكمل بل يستقرب، عندما يصير مع الإنسان ثقب بوتال مفتوح هذا الثقب بين الأُذينين إذا كان مفتوحًا يصير معه مرض يسمى الزرق، لأن القلب عندما يضغط ليضخ الدم إلى الرئتين ما دام يوجد فتحة بين الأُذينين فينتقل الدم للأُذين الآخر دون الذهاب إلى الرئتين، السوائل دائماً تختار الطريق الأقصر، إذا كان عندك حاقنة وبربيش أملأها ماءً، واثقب هذا البربيش في مكان قريب من الحاقنة واضغط، الماء يخرج من الثقب الأقرب لا من الأبعد، والنفس هكذا تميل إلى الطرق السهلة في الدراسة وفي التعامل، وحتى في الدين، يقول لك: يا أخي أنا قمت بثلاث وثلاثين عمرة، واللهِ العمرة جميلة، تركب في الطائرة وتنزل إلى الفندق, وإذا كان لك ابن في جدة، تأكل وتشرب فهي نزهة، وطواف حول الكعبة، هذه هي العمرة ، ولكن تأتي وتغض بصرك عن النساء هذه هي البطولة، فالمسلمون الآن يبحثون عن الأشياء السهلة، فالصلاة لا تكلف شيئًا، والعمرة لا تكلف شيئًا, نريد أن ننظر إليه في الدرهم والدينار أوقَّافٌ هو عند حدود الله، وفي البيع والشراء, وغضِّ البصر، والعلاقات الاجتماعية؟ ألديه التزام في كل هذا؟ هذا هو الدين .
 ذات مرةٍ قلت لكم: كل إنسانٍ بإمكانه أن يفعل صالحاً، لكن ليس بإمكان كل إنسان أنْ يستقيم، قد تكون له أعمال كثيرة جداً وطيِّبة، ولها عند الله أجر كبير، لكن ليس منضبطاً بأوامر الشرع، إذًا: " أفضل الأعمال ما أكرهــت نفسك عليه "، هناك أعمال طابعها مادي، وهناك أعمال طابعها نفسي، الأعمال النفسية تحتاج إلى مجاهدة، أما المادية فلا تحتاج إلى شيء من هذا.
لا تخيب ظن أخيك فيك :
 يقول هذا الإمام الجليل: " من ظن بك خيراً فصدِِّق ظنه ", قالوا: إن أبا حنيفة النعمان رضي الله عنه كان يمشي في الطريق، فقال أحدهم للآخر: هذا الرجل الذي لا ينام الليل، لكنه في الحقيقة ينام الليل، فاستحيا من الله عزّ وجل أنْ يظنه الناس بورعٍ أعلى من ورعه الحقيقي، ويروي التاريخ أنه منذ تلك الليلة صار يحيي الليل، وينام في بعض وقت النهار، يحيي الليل بالعلم وبالصلاة وبالذكر، شيء صعب جداً أنْ يظنك الناسُ في مكان, وأنت دون هذا المكان، أن يظنك الناس بهذا الحجم, وأنت لستَ بهذا الحجم .
 كنت أقرأ كتاباً فلفت نظري فيه أربعة أدعية, وردتْ في مقدمته، أعجبتني أيَّما إعجاب: " اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحداً أسعد بما علمتني مني، وأعوذ بك أن أكون عبرةً لأحدٍ من خلقك، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيءٍ يشينني عندك، وأعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك " .
 قال: " مَن ظنَّ بك خيراً فصدِّقْ ظنه "، أحياناً الإنسان يظن فيك ظنًّا طيِّبًا، فأنت لا تخيِّب ظنه .
الظلم رهنه الانتقام من الله , والشيء المغصوب رهنه الخراب :
 يقول هذا الإمام الجليل: " يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم " , عندما يحين الوقت لينتقم اللهُ من الظالم لصالح المظلوم هذا اليوم أشد على الظالم من يومه على المظلوم، عندما كان يتعالى أو يتجبَّر أو يتشفى منه .
 ويقول هذا الإمام الجليل: " الحجر المغصوب في الدار رهنٌ بخرابها ", أي أنّ حجرًا واحدًا مغصوبًا في دار طويلة عريضة ذات طوابق كثيرة، هذا الحجر وحده ربما كان سبب خراب هذه الدار، رأس مال طويل عريض فيه مبلغ قليل من المال الحرام يكون سببًا لِمحق المال كلِّه .
 مرة قال لي شخص: احترق سوق بأكمله، وآخر دكان احترقت دكانُه، أي أنّ الحريق بدأ في الساعة الثالثة ليلاً، ومحلّه احترق في الساعة الثامنة صباحاً، سوق بأكمله احترق، فقال: والله لو أن أحداً اتصل بي هاتفياً لأعطيته على هذا الخبر مئة ألف ليرة، وكان هذا سنة السبعين، لأن مجموع البضاعة التي احترقت ثلاثة ملايين، وكان في الصندوق ثمانمئة ألف، واحترق الصندوق بما فيه، فالخسارة أربعة ملايين، ثم قال لي: أنا لي في التجارة ثلاثون عام، في هذه الأعوام كنت أحلف يميناً كاذبة، واجمع المال الذي لا يرضي الله عنه، وكانت هذه نتيجته .
 فإذا كان لدى الشخص أموالٌ، وجزء منها حرام ربما هذا الجزء الصغير أتلف الكمية الكبيرة، هذا كلام دقيق: " الحجر المغصوب في الدار رهنٌ بخرابها "، المبلغ الصغير في المبلغ الكبير رهنٌ بتلفه .
من هما العاقل والجاهل برأي الإمام علي بن أبي طالب ؟
 قيل لهذا الإمام العظيم: " صف لنا العاقل؟ فقال: هو الذي يضع الشيء مواضعه، فقيل له: صف لنا الجاهل؟ قال: قد فعلت ", البلاغة بالإيجاز، لأنه ما دام العاقل يضع الشيء في مواضعه، فالجاهل يضع الشيء في غير مواضعه، فمَن هو الحكيم؟ هو الذي يضع الشيء في المكان الصحيح، أن تضع الشيء المناسب في المكان المناسب، وبالقدر المناسب، وفي الوقت المناسب، هذه هي الحكمة:
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
( سورة البقرة الآية : 219)
 انظر أيها الأخ، فأنت بالحكمة تجلب المال، وبعدم الحكمة تتلف المال، بالحكمة تتعايش مع الجسم العليل، أنا أعرف شخصًا من خمسة وثلاثين عامًا، معه آفة بقلبه، يقول لك: دارِهِ تستأنس به، حكيم جداً، لا يتعب نفسه، بعيد عن الهزات النفسية، أكلُه معتدل، يعيش مع قلبه بالحكمة، وإنسان آخر أحياناً يتلف نفسه بثلاثة وثلاثين عامًا، فأنت بالحكمة تتعايش مع مرضك، وبالحمق تتلف صحتك، بالحكمة تجعل المرأة السيئة صالحة، وبالحمق تجعل الصالحة سيئة، لذلك: " صف لنا العاقل؟ قال: هو الذي يضع الشيء مواضعه، فقيل له: صف لنا الجاهل؟ قال : قد فعلت ".
ما معنى الحياة الطيبة كما وردت في الآية برأي الإمام ؟
 سئل كرَّم الله وجهه كما ورد في نهج البلاغة عن قوله تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
( سورة النحل الآية : 97)
 ما معنى الحياة الطيبة؟ قال: " هي القناعة ", لأن الإنسان إذا قنع بما آتاه الله سعد به، لأنه معظم الناس أدركوا الحدَّ الأدنى من الحياة, قال عليه الصلاة والسلام:
" إذا أصبحت آمناً في سربك، معافى في جسمك عندك قوت يومك، فكأنما ملكت الدنيا بحذافيرها " .
( ورد في الأثر)
 لك غرفة صغيرة، فيها فراش وثير نظيف، مدفأة دافئة، تأكل الطعام الطيِّب، وتلبس ثيابًا نظيفة، وعندك أولادك وزوجتك، ألم يقل الملك لوزيره: من الملك؟ فاستغرب الوزير, وقال له: أنت الملك، فقال له: لا، الملك رجلٌ له بيتٌ يؤويه، وزوجةٌ ترضيه، ودخلٌ يكفيه، وهو لا يعرفنا ولا نعرفه ", هذا هو الملك .
من جعل همه الدنيا فرق الله عليه أمره :
 ويقول هذا الصحابي الجليل: " من أصبح على الدنيا حزيناً فقد أصبح لقضاء الله ساخطاً ", حزين على الدنيا، وقيل عن سيدنا الصديق: انه ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط، وربنا قال:
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
( سورة يونس الآية : 58)
 افرح بالعطاء الإلهي، افرح بالعلم، افرح بالحكمة، افرح بمعرفة الله، افرح بفهم القرآن، افرح بالعمل الصالح، افرح بطلاقة لسانك في ذكر الله عزّ وجل, " من أصبح على الدنيا حزيناً فقد أصبح لقضاء الله ساخطاً، ومن أصبح يشكو مصيبةً نزلت به فقد أصبح يشكو ربه، ومن أتى غنياً فتضعضع لغناه ذهب ثلثا دينه، ومن لهج قلبه بحب الدنيا التاط منها بثلاث، همٍ لا يفارقه وحرصٍ لا يدركه, وأملٍ لا يبلغه ", ومعنى التاط منها بثلاث, أي أصابته الدنيا بثلاث فواقر .
بادرة التعلم :
 يقول هذا الإمام الجليل: " إن لم تكن حليماً فتحلَّم فإن من تشبه بقومٍ أوشك أن يكون منهم", وهذا الموضوع ذكرته مِن قبْل بالتفصيل: " الحلم سيد الأخلاق، وكاد الحليم أن يكون نبياً " فإذا لم يكن الإنسانُ حليمًا فلْيتحلَّم، يغلي مثل المرجل مِن الداخل، لكنه ضابط لأعصابه، وهذه نعمة، وهذا إنسان عظيم، لأنه يعاكس نفسه، هذا هو التحلُّم، التحلُّم ثمن الحلم، إذا أردت أن تكون حليماً أصالةً فعليك بالتحلم وكالةً، تتحلم وكالةً تصبــح حليمًا أصالةً، لأن الحلم خلقٌ يتفضَّل الله به عليك، وكما يقولون: " إن مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبداً منحه خُلُقاً حسناً " .
 فالحلم الحقيقي من الله، لكن ثمن هذا الحلم الحقيقي أن تتصنع الحلم: " إنما الحلم بالتحلم وإنما الكرم بالتكرم, وإنما العلم بالتعلم ".
نطاق العلم واسع :
 قال: " كل وعاءٍ يضيق بما جُعِل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع به ", الذي عنده مستودع للوقود السائل يسع ألف لتر، أخي بحبح المقدارَ، لا يتسع ولا للتر زائد، فهذا الوعاء المادي محدود السعة، لكن الإنسان لو يقرأ ألف كتاب, لو يقرأ مئة ألف كتاب، فعنده سَعة، الحاسوب له سعة, يقول لك: هذا مئتا ميغا، هذا ثلاثمئة ميغا، يوجد له سعة ينتهي عندها، سبحان الله إلا الإنسان مهما طلب العلم فإن هذا الدماغ يتسع من دون حدود، وميزة العلم أنك إذا أنفقته يزداد، فمِنَ الممكن أنْ يكون عندك وعاء فيه شراب لذيذ، تملأ منه كأسًا، وتعطيها للضيف، فهل يزيد الوعاء؟ لا، بل ينقص، قال: " يا بني المال تنقصه النفقـة، والعلم يزكو على الإنفاق "، " مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة " .
من أسرار المؤمن :
 أيها الأخوة, مع الدرس السابع من سيرة سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه, أظن أن هذا هو الدرس الرابع الذي يتضمن أقوال الإمام علي كرم الله وجهه، وهذا الإمام الجليل له كلمات بمثابة الحكم، والحكم كما قلت في درسٍ سابق: تجارب إنسانية مكثفة في كلمات، فكيف إذا كان هذا الحكيم صحابياً جليلاً وهو رابع الخلفاء الراشدين، وقد التقى النبيَّ عليه الصلاة والسلام منذ نعومة أظفاره؟ .
 يقول هذا الإمام الجليل: " من أشرف أعمال الكريم غفلته عما يعلم ", الإنسان الخفيف كلُّ شيءٍ يعلمه يبوح به، قد يوقع بين الناس العداوة والبغضاء، قد يفضح الأسرار، قد يكشف الأستار، لكن الكريم ولو أنه يعلّم الكثير الكثير عن بعض الأشخاص، وعن بعضِ الجماعاتِ لكن غفلّته عما يعلّم أحد دلائل نبلّه وشرفه، لذلك المؤمن يتخلق بأخلاق الله، ومن أخلاق الله أنه ستير ، والستير صيغة مبالغة من الستر، أي يستر ألوف الملايين من عباده، أو يستر ستراً كأن هذا العبد لم يفعل شيئاً، إما أنّ هذا الستر فيه نوعيةٌ عاليةٌ جداً، أو أن فيه تكراراً كثيراً جداً .
 الإنسان حينما يفضح أمرًا، وحينما يبوح بالسر، وحينما يُشيع بعض الأغلاط بين الناس قد يشعر بلذة، لكن لو أنه سكت, وكتم هذا السر, وظهر كأنه لا يعلّم شيئاً عندئذٍ يتصل بالله عزَّ وجل، والسعادة التي تأتيه من اتصاله بربه أبلغ بكثير من تلك المتعة الفارغة التي تأتيه من بوح السر، لأنّ طبع الإنسان يحب أن يكون متميزاً حتى في الحديث، لكن التكليف في ستر الأسرار .
 يا أيها الأخوة الكرام, آيةٌ واحدة لو فهمناها فهماً كما أراد الله لخزنا ألسنتنا، يقول الله عزَّ وجل:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة النور الآية : 19)
 ما ذنبه؟ ما فعل شيئاً، ما تكلم ولا كلمة، لكنه يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يحب لهؤلاء المؤمنين أن يكونوا ممزقين، يحب لهؤلاء المؤمنين أن يكون شيعاً وأحزاباً وفرقاً وطوائف, قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾
( سورة الأنعام الآية : 159)
إياك أن تتبع عورة أخيك :
 قال: " وليس من العدل القضاء على الثقة بالظن ", إنسان ثقة لا يمكن أن أستمع إلى رأيٍ أحاديٍ يطعن فيه، مكانته ملء العيون والأبصار، ملء القلوب، أنْ أسمح لإنسانٍ تافه أن يطعن به, وأصدقه هذه خيانة، لذلك أيها الأخوة هذه الآية قلَّما ننتبه إليها:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
( سورة الحجرات الآية : 6)
 دققوا فيما سأقول: لك أخٌ كريمٌ جداً ملء سمعك وبصرك، تحبه حباً جماً، تثق بأخلاقه واستقامته, وعدالته, وعلمه, وجاءك إنسان يطعن فيه، ماذا تعمل؟ إن كان هذا الطعن لا يحرِّك فيك ساكناً، ولا تأبه له، وعددته كذباً، وتلفيقاً قذراً، ولم تلتفت له، لا شأن لك، ولا عليك إنْ لم تتابع الأمر, أما إذا اهتزت صورته عندك فيجب أن تزيل هذا، فإن بقيت ساكتاً وساكناً، ولم تذهب إليه، ولم تحاول تجلية الحقيقة فأنت قد اغتبته في قلبك وأنت لا تدري، وهذه كما سماها الإمام الغزالي غيبة القلب، هذا المجتمع المسلم الذي عليه أن يحمل هذه الرسالة إلى الآفاق، هذا المجتمع المسلم الذي وصفه النبي كأنه كالبنيان المرصوص، هذا المجتمع المسلم الذي هو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
 هذا المجتمع المسلم لا ينبغي أن يتمزق ولا ينبغي أن يُفتَّ في عضده، ولا ينبغي أن يكون أشلاء ممزقة، إذًا : " وليس من العدل القضاء على الثقة بالظن ", لا بدَّ من الدليل، انطلاقاً من هذه القاعدة نرى في القضاء الشرعي لو أن أحداً أقام دعوى على شخصيةٍ مرموقةٍ دينيةٍ، لا بدَّ من أن يدفع مبلغاً كبيراً جداً يعدُّ تأميناً على أنه تطاول على مقامٍ كبير، فإذا كانت دعواه باطلةً حوسب حساباً عسيراً، ليس كل إنسان بإمكانه أن يطعن في أشخاص أعلى منه .
 يا أيها الأخوة, هؤلاء الذين يدعون إلى الله عزَّ وجل هؤلاء هم بركة المجتمعات الإسلامية، فإذا تعودنا في مجالسنا أن نطعن بهذا، وهذا، فمن بقي؟ والإنسان إذا شعر أنَّ كلَّ هؤلاء ليسوا كاملين ييئس، ويقع في حالة إحباط شديدة جداً، أنا لا أقول هذا من الهواء، في أي مجلس تقريباً يتندرون بأخطاء الدعاة إلى الله، هذا الداعي فعل كذا، وهذا الداعي فعل كذا، وهذا الداعي فعل كذا، هم غير معصومين، لكن لا ينبغي أن تأخذ هناتهم وأغلاطهم الصغيرة إذا وجدت, وأن تضخِّمها, وأن تجعلها مدار الحديث، لذلك أيها الأخوة الكرام:
" من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه في عقر بيته" .
(ورد في الأثر)
 أيها الأخوة, في هذا الأسبوع أحدُ الناس قال لي عن شخصٍ أحترمه، وأقدِّر فيه الإخلاص والاستقامة, قال لي كلاماً لا يليق به أبداً، نهرته، وقلت له: تأكَّد، وبقيت هذه القصة في نفسي أسبوعاً، إلى أن التقيت به مرةً ثانية، فلما ضيَّقت عليه، قال: لست متأكداً أنه هو الذي فعل هذا، إنسان آخر كان بهذا المسجد، قضية كبيرة جداً, قال تعالى:
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾
( سورة النور الآية : 15)
عند المحك يعرف الرجال :
 ويقول هذا الإمام الجليل: " في تقلُّب الأحوال عُلِم جواهر الرجال ", الحقيقة أنّ الإنسان لا يبدو على حقيقته إلا بتبدُّل الأحوال، حينما ينتقل من الصحة إلى المرض، من الغنى إلى الفقر، ومن الفقر إلى الغنى، من الضعف إلى القوة، ومن القوة إلى الضعف، تبدُّل هذه الأحوال هو الذي يكشف معادن الرجال, لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
( سورة الأحزاب الآية : 23)
 هذا هو الثبات، النبي عليه الصلاة والسلام كان مثلاً أعلى في الثبات على المبدأ، حسبكم قوله صلى الله عليه وسلم:
" والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ".
( ورد في الأثر)
 أنت مع مـن تتعامل؟ أنت تتعامل مـع خالق الكون، أنت تعاهد رب العالمين، أنت أعطيت العهد على أن تستقيم على أمره في المنشط والمكره، في السرَّاء والضراء، في الغنى والفقر، قبل الزواج وبعد الزواج، في القوة والضعف، في الصحة والمرض, قال تعالى:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
( سورة الأحزاب الآية : 23)
 واللهُ عزَّ وجل لا بدَّ أن يبتلي عبده المؤمن، لقوله تعالى:
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾
( سورة المؤمنون الآية : 30)
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
( سورة آل عمران الآية : 179)
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
( سورة العنكبوت الآية : 2)
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
( سورة الملك الآية : 2)
 يجب أن تعتقد اعتقاداً قاطعاً أنه لا بدَّ أن تبتلَى، فإذا كنت فقيراً ابتُلِيت بالفقر، قد تصبح غنياً، وتبتلى بالغنى، إن كنت لا سمح الله مريضاً، فهذا المرض امتحانٌ لك، فإذا شفاك الله عزَّ وجل فامتحانك الجديد هو الصحة، أنت مبتلى وممتحن، بل إن الإنسان في حياته الدنيا ممتحنٌ مرتين: ممتحنٌ مرةً ببعض الحظوظ التي أكرمه الله بها، وممتحنٌ بحرمانه من بعض الحظوظ التي شاءت حكمة الله أن يحرمه منها، استمعوا إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:
" اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب، وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب " .
( ورد في الأثر)
 هل هناك حالةٌ ثالثة؟ إما أن تكون غنياً أو فقيراً، قوياً أو ضعيفاً، صحيحاً أو مريضاً، عندك أفضل زوجةٍ أو عندك أسوأ زوجة، عندك أولادٌ بررة أو أولادٌ عاقون, " فما رزقتني مما أحب "، يا رب اجعلْ هذا المال في طاعتك، اجعل نعمة الأمن في معرفتك، اجعل نعمة الصحة ضماناً لطاعتك، اجعل نعمة المال تقرُّباً إليك .
 فلو أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان مالاً وفيراً لا شك أنه سينشغل به، يا رب هذا الوقت الذي كنت سأنشغل فيه بمالي، اجعلني أنشغل فيه بطاعتك، وكنت أدعو, وأقول: " اللهم كما أقررت أعينَ أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك ".
 إذا كان عند الإنسان بيت اشتراه بعشرين ألفًا، واليوم أصبح بعشرين مليونًا، عنده أرض جرى عليها تنظيم، فتضاعفت مئة ضعف، يقول لك: لا أبيعها ولا بثلاثين مليون، ويشمخ أنفه إلى الأعلى، قرت عينه بهذه الأرض، أو قرت عينه بهذا البيت، أو قرَّت عينه بهذا المحل التجاري, " اللهم كما أقررت أعينَ أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك ".
مفسدة العقل :
 وقال: " عُجْب المرء بنفسه أحد حُسَّاد عقله "، كنت أقول لكم دائماً: إن النجاح مطلق النجاح هو قمة الجبل، والطريق لهذه القمة طريقٌ شائك، وفيه عقبات، وفيه أكمات، وفيه وِهاد، وفيه أشواك، وفيه وحوش وحشرات، فليست بطولتك أن تصل إلى قمة النجاح، ولكن أن تبقى في القمة، لأنك إذا وصلتَ إلى القمة سوف تجد عشرات الطرق الزَّلقة، التي قد تهوي بالإنسان إلى الحضيض، لذلك قال تعالى:
﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾
( سورة الإسراء الآية : 80)
 الدخول شيء والخروج شيء، مثلاً: قد أنشئُ مستشفى بنوايا طيبة جداً، خدمةً للبشرية المعذبة، خدمةً لهؤلاء الفقراء المحتاجين، سوف أجعل نصف المستشفى للفقراء المساكين، والله الدخول رائع، لكن إذا أنشئت هذه المستشفى، ورأيت الأموال الطائلة تصل إليك، ربما قسا قلبك، وتطلبُ من المرضى ما يوقعهم في أشد الأمراض من ضخامة المبلغ، قال تعالى:
﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾
( سورة الإسراء الآية : 80)
 " عُجْب المرء بنفسه أحد حُسَّاد عقله "، حسد داخلي، وهناك حسد خارجي، الإنسان إذا أعجب برأيه عمي عن غيره .
كلمة حق أريد بها باطل :
 ويقول هذا الإمام الجليل حينما سمع كلمة "لا حكم إلا الله" قال قولته الرائعة التي أصبحت مضرب المثل: " كلمة حقٍ أريد بها باطل ", أحياناً يدرك الإنسان بحاسته السادسة أن قضيته مع فلانٍ لا تحل عن طريق المحاكم، لا تحل إلا عن طريق الشيوخ، لأن القانون مع خصمه، لكن الشرع معه، يتوجه إلى بعض الشيوخ مِمَّن يمون على خصمه، يقول له: يا سيدي أنا أريد حكم الشرع، أنا أريد شيئاً يرضي الله عزَّ وجل، واللهِ هذه كلمة حق، لماذا؟ إذا كانت قضيتك تحل في المحاكم لا تلجأ إلى الشيوخ, الإنسان يتبع مصالحه، فإذا رآها عند القضاة وفي المحاكم توجَّه إليها، وإن رآها عند العلماء توجّه إليهم، فمثل هذا الكلام،" كلمة حقٍ أريد بها باطل "، وينبغي ألاّ تسكت على كلمةٍ حقٍ أريد بها باطل .
 النبي عليه الصلاة والسلام حكم بين رجلين، فالذي حكم عليه وكان الحق يتلبسه خرج من عند النبي, وقال : حسبي الله ونعم الوكيل، النبي عليه الصلاة والسلام, قال:
" إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ, فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " .
(أخرجه أبو داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ في سننه)
 فهل يمكن لطالب لا يدرس فيرسب؟ ثم يقول: يا أخي هكذا ترتيب ربي، أنا مستسلم لقضاء الله، هذه إرادة الله، هذه مشيئة الله، نقول له: دعك من هذا الكلام، هذه كلمة حقٍ أُريدَ بها باطل، لكن متى تقول: حسبي الله ونعم وكيل, إذا درس الطالبُ بأقصى ما عنده، ثم جاء مرضٌ حَالَ بينه وبين أداء الامتحان، الآن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، لذلك الناس يستخدمون هذه الأقوال الإسلامية القرآنية النبوية دائماً في غير موضعها، مثلاً: إذا أراد ألاّ يدفع ما عليه, يقول لك: أدفعُها إن شاء الله، إذا أراد ألاّ يحضر هذا الموعد, يقول لك: إن شاء الله سآتي، أنا أقول له: أريد إن شاء الله إسلامية، لأنك إذا كنت مصمماً على أن تأتي في أعلى درجات التصميم, تقول: إن شاء الله، لقوله تعالى:
﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ﴾
( سورة الكهف الآية : 23-24)
 أمَّا أن تستخدم هذه الكلمة للتنصل, والتهرب من حضور هذا اللقاء، أو من دفْعِ هذا المبلغ فهذا مكر وخداع .
 الأجانـب أحياناً يتعاملون مع أُناس سيئين، لا يمثلون هذا الدين، فيسيئون للدين، مع أنّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام, يقول:
" أنت على ثغرةٍ من ثُغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك " .
(ورد في الأثر)
 فيأخذون على بعض المسلمين المقصرين ثلاث كلمات، " معلش، وبكرة، وإن شاء الله "، هم يعتقدون أن هذه الكلمات هي سبب تأخُّر المسلمين، التأجيل، وعدم الإعداد الكافي، وعدم المبالاة، أما إن شاء الله الإسلامية، أي أنا سأحضر بأعلى درجـات الـتصميم، قـال:
﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾
( سورة الملك الآية : 66)
روحوا القلوب تعى الذكر :
 يقول هذا الإمام الجليل: " إن هذه القلوب تمَل كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة ", فالأب أحياناً يكون عبوساً قمطريراً، لكنه يمكن أنْ يكون مرحًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيتَه بساماً ضحاكًا، وكان يُرْكِب الحسنَ والحسينَ على ظهره, ويقول:
" نعم الجملُ جملُكما " .
(ورد في الأثر)
 فشخصيته في البيت شخصية محببة جداً، أما أنْ يكونَ دائماً في هيبة وسيطرة، بوجه ليس فيه أيُّ تعبير، فليس هذا هو المسلم .
 النبي عليه الصلاة والسلام، كان فكهاً مع أهله ومع أصحابه، كان يداعبهم ويمزح معهم ، ويسأل عنهم ويشجعهم، ويثني عليهم، ويتواضع لهم، فهذه أخلاق النبي، وينبغي أن نتخلق بأخـلاقه, " إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة ", ومن طرائف الحكمة, طرفة أدبية علمية، أحياناً من حين إلى آخر ففيها تجديد النشاط، والمعلم الناجح هو الذي يستطيع أن يلقي فكاهةً أدبيةً تنشط الطلاب, وتجدد فيهم العزيمة، هذا كلام سيدنا علي .
رزقك موصول إليك :
 ويقول هذا الإمام الجليل: " يا ابن آدم ما كسبت فوق قوتِك فأنت فيه خازنٌ لغيرك " اسمعوا هذه الكلمة, هل تعلم ما هو رزقك؟ لو تملك أموالاً لا تأكلها النيران كما يقولون، لا تعدُّ ولا تحصى، لو تملك ألوف الملايين من العملات الصعبة، رزقك هو الطعام الذي تأكله، والثياب التي تلبسها، والبيت الذي تسكنه، والزوجة التي قسمها الله لك، وما سوى ذلك سماه القرآن جمعاً، فقال تعالى:
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
( سورة الزخرف الآية : 32)
 ورحمة ربك خيرٌ مما يجمعون، ومشكلة الفائض عن حاجاتك تحاسب فيه مرتين, كيف اكتسبته؟ وكيف أنفقته؟ وأنت في الحقيقة لم تنتفع به إطلاقاً، ربما ضيعت من أجل كسبه أثمن أوقاتك، ربما ضيعت من أجل كسبه ثمرة أتعابك، ربما ضيعت من أجل كسبه رأس مالك الحقيقـي وهو الوقت، لذلك هؤلاء الذين ينصبّون على الدنيا, وينسون من أجلها كلَّ شيء هؤلاء مقامرون ومغامرون، فكل مكتسباتهم في نبض القلب، فإذا توقف نبض القلب تحولت كل هذه الأموال إلى غيرهم، لذلك يقول هذا الإمام الجليل: " يابن آدم ما كسبت فوق قوتِك فأنت فيه خازنٌ لغيرك " .
 ما أكثر العبر وما أقل المعتبرين، أحياناً تجد إنسانًا توفَّاه الله، ترك ثروة طائلة لعله حصَّلها بالحرام أو بالحلال، لكن تركها لغيره، ولهذا ورد في الحديث الصحيح:
" إن أندم الناس رجلٌ دخل ورثته بماله الجنة ودخل هو بماله النار " .
(ورد في الأثر)
 هناك إنسان ترك ثمانمئة مليون جمعها من دور القمار ودور اللهو، وهو على فراش الموت طلب أحد العلماء، قال له: ماذا أفعل؟ قال له: واللهِ لو أنفقتَها كلّها في سبيل الله ما نجوتَ من عذاب الله، وأنا ناصحٌ لك، يا أيها الأخوة الكرام، المؤمن العاقل يعمل لهذه الساعة التي لا بدَّ منها، ساعة اللقاء، فالعاقل لا يتحرك حركةً، ولا يتكلم كلمةً، ولا يعطي شيئاً ولا يمنع شيئاً، ولا يصل، ولا يقطع قبل أن يتصور أنه بين يدي الله عزَّ وجل، والله جل جلاله, يسأل: لِمَ فعلت؟ ولمَ لمْ تفعل؟ .
 ذات مرة كان أحد الأخوة يعمل في وظيفة، وبإمكانه أنْ يوقع أشد الأذى بالناس، لو كتب ضبطًا بحق أحد الناس يُحبَس هذا بسببه شهرين بسجن عدرا، قال لي: انصحني، قلت له: أكتب ما شئت من هذه الضبوط، وأودع ما شئت من الناس في هذه السجون، فقال لي: هذه نصيحتــك, قلت: انتظر، ولكن إذا كنت بطلاً فهيِّئْ لربك عن كل ضبطٍ جوابًا، إنْ كان لديك الجواب فلا مانع ، لكن إنسانًا يأخذ دابةً ميتةً مدهوسةً في الطريق، ويجعلها طعاماً يبيعه لهؤلاء الناس على طرق السفر، فهذا لا ينبغي أنْ تسكت عنه، وأنْ تجد إنساناً يبيع لحماً أصله من لحم القطط, فهذا لا ينبغي أن تسكت عنه، أنا أعطيك صلاحيَّات، لكن هيِّئْ لكل ضبطٍ تكتبه جواباً لله عزَّ وجل، هذا الكلام أقولــه لنفسي ولكم، افعل ما تشاء، وفي حديث رائع عن أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ ".
(أخرجه البخاري في الصحيح )
 يفهمه الناس فهماً آخر، له معنى قد لا يخطر على بال الناس، يعني هذا العمل إن لم تستح به أمام الله فافعله ولا تسأل، ولا تبالي بكلام الناس، فأنت هيِّئْ جوابًا, لماذا طلقت؟ لماذا نظرت؟ لماذا غضبت؟ لماذا أعطيت؟ لماذا منعت؟ إذًا: " يا ابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازنٌ لغيرك " .
رسالة للدعاة :
 هذا حديث خاص بالدعاة, قال: " إن للقلوب شهوةً وإقبالاً وإدباراً، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها ", كيف؟ كل واحد منا شاء أم أبى يوجد عنده مطالب أساسية، كل إنسان يحب وجوده، يحب سلامة وجوده، وألاّ يكون مريضًا، يحب أن يكون غنيًّا، ليس غنًى يكفي بل ليثري، يحب أن يعيش تسعين عاماً، ويُسَرُّ بالأعمار الطويلة، فكل إنسان مفطور على حب وجوده, وكمال وجوده, وسلامة وجوده, واستمرار وجوده، هذه حاجة عند الإنسان، أيّ إنسان .
 كل إنسان عنده حاجة للأمن، يكون مطمئنًا، يخاف أن يتعرّض لمقلقات، حاجة الإنسان إلى الصحة، حاجته إلى الكفاية، حاجته إلى زوجة صالحة، هذا الكلام للشباب، حاجته إلى أولادٍ أبرار، حاجته إلى التوفيق في عمله، حاجته إلى حياةٍ هادئةًٍ مطمئنة، هذه الحاجات أنت كداعية بيِّن للناس, أنه:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
( سورة النحل الآية : 97)
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾
( سورة النساء الآية : 147)
 إذا أنت حاولت أنْ تلبِّيَ حاجات الإنسان الأساسية عن طريق الدين فأنت داعيةٌ ناجح، فهذا المدعو إنسان يخاف، وهو قلِقٌ على صحته، قلقٌ على ماله، قلقٌ على مستقبله، على أولاده، على زوجته، وهذا شيء طبيعي، لأن القلق والضعف شيءٌ خِلْقي في أصل الإنسان، لقوله تعالى:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾
( سورة المعارج الآية : 19)
 هكذا خلق الإنسان, قال تعالى:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
(سورة المعارج الآية : 19-23)
 المصلي ناجٍ من الهلع والجزع، فإذا أردت أن تدعو إلى الله عزَّ وجل، فاستخدم حاجة الإنسان الأساسية, حاجته إلى الكفاية، حاجته إلى الأمن، حاجته إلى السلامة، حاجته إلى الصحة، حاجته إلى التوفيق، حاجته إلى التيسير، إذا بيَّنت له الآيات التي تؤكد أن كل هذه الحاجات مقضية في ظل الدين فيقبل على هذا الدين، فلذلك معالجة الموضوعات في الدعوة إلى الله أمْرٌ خطير جداً
 هناك موضوعات منفرة، فمثلاً معالجة موضوع عتق العبيد في زماننا لا مكان له، أين العبيد؟ لا وجود لعبيد أفراد، ولكن هناك شعوب مستعبَدة، فموضوعات كهذه الموضوعات لا تقدِّم ولا تؤخِّر، حكم الصلاة داخل الكعبة، من يستطيع الوصول إلى الداخل الآن؟ اذهبْ وحجَّ أو اعتمر، أيسمح لك أن تدخل الكعبة؟ فهذه موضوعات بعيدة عن واقعنا، لكن الداعية الصادق هو الذي يبحث عن موضوعات تمس شغاف القلب، يضع يده على جرح الناس، يضع أصابعه على أوتار قلوبهم، فهذا كلامٌ جليل: " إن للقلوب شهوةً وإقبالاً وإدباراً، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها "
 الإنسان قد يزور مريضًا، هذا المريض مرهق، ويكاد يهلك، كله آذان صاغية، والإنسان حينما يتعرّض لمشكلة، أو لمصيبة فكلُّه آذان صاغية، فشهوته للشفاء تجعله يصغي، استمعوا إلى هذه الآية:
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾
( سورة التحريم الآية : 4)
 أي علامة إصغاء القلب السلوك، توبتك دليل إصغاء قلبك إلى الله عزَّ وجل .
الحق واحد :
 ولبعد نظر هذا الإمام الجليل, يقول: " ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة " مستحيل, لأن الحق طريق مستقيم فلو أحضرنا ألف خط مستقيم لا بدَّ من أن تنطبق هذه المستقيمات كلها على بعضها بعضاً، بين نقطتين لا يمر إلا خطٌ مستقيمٌ واحد، والدليل:
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
( سورة الأنعام الآية : 153)
 ولا تتبعوا السبل, كلمة السبل صيغة جمع, فتفرق بكم عن سبيله, قال تعالى:
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
( سورة البقرة الآية : 257)
 يخرجهم من الظلمات إلى النور, الظلمات صيغة جمع, كلمة النور مفرد، الحق واحد, والدليل :
﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾
( سورة يونس الآية : 32)
 الحق واحد في العالم كله، لأن الله هو الحق، فالحق لا يتعدد, ولا يتنوَّع، الحق موحد، الباطل منوَّع, لهذا: " ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة " .
من أقواله أيضاً :
 قال: " إذا هِبْتَ أمراً فقع فيه، فإن شدة توقِّيه أعظم مما تخاف منه ", هذا ينطبق على قول بعض الحكماء: " توقع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها "، إذا كان الإنسان خائفًا من شيء، فهذا الخوفُ يدمِّره، فإذا اقتحمه انتهى الأمر، فهذا الخوف الشديد هو حجاب بين العبد وربه، كل شيء تخافه استعن بالله واقتحمه اقتحاماً .
 وقال: " من استقبل وجوه الآراء عرف مكان الخطأ ", أنا أقول لكم: أخطر شيء يصيب الإنسان أن يعزل نفسه عن المجتمع، فإذا عزل نفسه عن المجتمع بنى أوهاماً وأوهاماً، فكلما وسَّع الإنسان دائرة اتصالاته كلما عرف حجمه وموقعه، تصور إنسانًا عنده ماكينة تريكو مثلاً، قال لك : هذه أعظم ماكينة في العالم، وهي ماكينـة موديل ( 49 ) هذا يكفيه أن يدخل إلى معمل أحدث فيعرف حجم آلته، كلما وسع اتصالاته واطلاعه ومعرفته، يعرف حجمه الحقيقي، والإنسان لا يرقى إلا إذا انطلق من حجمه الحقيقي .
 كان الإنسان يقدم في الإذاعة برامج أدبية وثقافية، أساس هذه البرامج أن يطلب مقابلة مع شخصية مرموقة أدبية أو علمية، فكان مقدِّم هذه البرامج يعكف أشهراً طويلةً على قراءة إنتاج هذه الأديب، وعلى معرفة المآخذ والمثالب, وكان يقرأ كلَّ ما قيل عنه، ورأي النقَّاد فيه حتى يصبح قريباً من مستوى الناقد، يلتقي به ويسأله أسئلةً كثيرة، فإذا بهذا الإنسان الكبير يصغر في هذا اللقاء، فلما عوتب فيما يفعله, قال: إنني أحب أن أعيد بعض الناس إلى حجمهم الحقيقي .
 أحياناً بعض الناس يملك قدرة على أن يبدو بحجمٍ أكبر من حجمه الحقيقي، فالإنسان إذا أراد أن يتقدَّم يجب أن يبني تقدمه على معرفة حجمه الحقيقي، والإنسان كلما قرأ سيَر كبارِ العلماء المخلصين العاملين شعر بضآلته، وشعوره بضآلته سبب رقيِّه، يقول سيدنا الشافعي: " كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي " .
 الإنسان كلما اطلع على أبطال في هذا الدين، وكلما قرأ سير العلماء المخلصين العاملين عرف حجمه، أما إذا عزل نفسه عن كل من حوله يصيبه داء اسمه: تضخُّم الشخصية، فلذلك كلام الإمام علي رائع جداً: " من استقبل وجوه الآراء عرف مكان الخطأ ", والنبي عليه الصلاة والسلام له موقف لا أشبع من ترداده وتكراره،
" لما الحباب بن المنذر سأله بأدبٍ جم، قال: يا رسول الله، أهذا الموقع الذي نزلنا به موقعٌ جاءك بالوحي، أم بالرأي والمشورة؟ قال له: بالرأي والمشورة، قال له: إذًا ليس بموقع، فسأله النبي عن موقعٍ مناسبٍ فدلَّه عليه، فأمر النبي أن ينتقل الجنود إلى هذا الموقع " .
(ورد في الأثر)
 وقف هذا الموقف الكامل ليكون قدوةً لكل من يأتي بعده من العلماء والأمراء .
 إذا نصحك شخصٌ بإخلاص، إياك أن تستكبـر على نصيحتـه، بل أصغِ إليه، هذا الذي ينصحك هو الذي يرفعك، وهذا الذي يمدحك هو الذي يقعدك، وسيدنا عمر, يقول: " ما أهدى إلي أحدٌ هديةً أثمن مِن أنْ يهديَ إليّ عيوبي ", الإنسان سهل أن يجامل الآخرين، المجاملة سهلة والمديح سهل، والإنسان الذي يمدح يرتاح من العيّ، لكن الإخلاص يقتضي أن تنصح، وأن تغار على هذا الدين .

عاقبة الذنب :
 وقال: " ترك الذنب أهون من طلب المعونة ", سبحان الله مرض الإيدز الذي حيَّر العلماء، والذي دمَّر العالّم الحديث، تمنيت أن أقرأ مقالة واحدة في العالم كله عن دعوةٍ إلى العفة، لأنها سبيل الوقاية الوحيدة من هذا المرض، وما أكثر الدعوات إلى البحث عن مصل مضاد لهذا المرض من غير فائدة: " ترك الذنب أهون من طلب المعونة ".
 مثلاً مدينة تشرب مياهاً قذرة، فشت فيها الأوجاع، والوباء، والأمراض، فماذا نفعل؟ بدل أنْ نمنع هذه المياه الملوثة استقدمنا الأطباء، والمستشفيات، وأصحاب الاختصاصات، والمخابر، هذا فعْل أهل الجهالة، لكنَّ الأولى أن توقف هذه المياه الملوثة، وينتهي كلُّ شيء، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾
( سورة إبراهيم الآية : 3)
 وصفُ ربنا عزَّ وجل جامع مانع، الكفار من شأنهم أنهم يصدون عن سبيل الله, ويبغونها عِوجا، والأمور دائماً معوجة .
حكم شتى :
 وقال: " وكم من أكلةٍ منعت أكلات ", الإنسان الحكيم لا ينهِي دعوته بكلمة، هناك كلمات لا تقدم ولا تؤخر تنهي دعوة بأكملها، ليس من الحكمة أن تقول كلمةً لا ثانية لها، الحكمة أن تستمر الدعوة إلى الله عزَّ وجل، الحكمة أن تقول قولاً مناسباً في الوقت المناسب، بالقدر المناسب للشخص المناسب هذه حكمة, قال تعالى:
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
( سورة البقرة الآية : 269)
 وهذا كلامٌ طيب: " الإعجاب يمنع الازدياد "، الإنسان حينما تعجبه نفسه لا يزداد لا علماً ولا قرباً، أما إذا اتهم نفسه يزداد علماً وقرباً، وانظرْ إلى هذا التابعي الجليل الذي قال: " التقيت بأربعين صحابياً ما منهم واحدٌ إلا وهو يظن نفسه منافقاً " .
ما خاب من استشار :
 وقال: " من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها ", من الذي قيل له : وشاورهم في الأمر؟ قال تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية : 159)
 من هو؟ النبي عليه الصلاة والسلام هو قمة العلم، وقمة الحكمة، وقمة الاتصال بالله عزَّ وجل، علمه من الله لا ينطق عن الهوى, ومع ذلك قال له:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
( سورة آل عمران الآية : 159)
 من أنت إذًا؟ إذا كان هذا الأمر موجهاً للنبي عليه الصلاة والسلام، " من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها "، لا تتمكن أن تدخل عند طبيب إلا بمبلغ، لكن بإمكانك تطرق باب أي إنسان تثق بعلمه وإخلاصه وأن تسأله والجواب بدون مقابل، فقط الدين مبذول بلا ثمن، الدين وحده في المساجد, في البيوت, كل الدعاة إلى الله عزَّ وجل تسألهم فيجيبون، فأنت ماذا يمنعك مِن أن تستعير عقول الرجال، وأن تستعير خبرتهم الطويلة، ومعرفتهم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومعرفتهم بأحكام الفقه؟ .
اقطع الإساءة بالإحسان :
 ويقول هذا الإمام الجليل: " عاتب أخاك بالإحسان إليه, واردد شره بالإنعام عليه ", مرة عليه الصلاة والسلام, قال:
من يقطع لسان هذا؟ .
(ورد في الأثر)
 إنسان تطاول على النبي، صحابيٌ فهم أن قطع اللسان يحتاج إلى مقص، وصحابيٌ آخر فهِم قطع لسانه أن تحسن إليه، وفي أيامنا قد يكون لك جار شرير، هذا الجار الشرير قدِّم له هديةً يسكت، تملك قلبه بهذه الهدية، وسائل الإكرام أسرع وأنجع من وسائل العنف والتهديد، كن محسناً، أشد الناس شراً يلين بالإحسان إليه: " عاتب أخاك بالإحسان إليه, واردد شره بالإنعام عليه ", والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾
( سورة فصلت الآية : 34-35)
اغتنم الفرص فإن العمر قصير :
 انظروا إلى هذه الكلمة التي تفيدُ مُضيّ الزمن، وإنْ مضى فلن يعود، قال: " لكل مقبلٍ إدبار، وما أدبر كأن لم يكن ", فأنت أحياناً تستقبـل الشتاء، فيأتي الشتاء ويمضي الشتاء، وكأن الشتاء لم يكن، تستقبل رمضان، فيأتي رمضان، ويمضي رمضان، وكأن رمضان لم يكن، تستقبل العيد فيأتي العيد، ويمضي العيد، وكأن العيد لم يكن، تنتظر أن يكبر ابنك، فيكبر ابنك، وتزوجه، وكأن هموم الزواج لم تكن، وهكذا الزمن يمضي سريعاً، فلذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
( سورة البقرة الآية : 148)
 معنى فاستبقوا: أي أنتم في زمن هدنة، أنتم في زمن محدود، وإن السير بكم لسريع، ولا بد من وقتٍ ينتهي فيه اختياركم، وينتهي تكليفكم، وتنتهي آجالكم وتختم أعمالكم, قال تعالى:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
( سورة البقرة الآية : 148)
 وفي الدرس القادم إن شاء الله هناك وصيةٌ جامعةٌ مانعةٌ لهذا الإمام الجليل أرجو الله أن نختم بها دروس الإمام سيدنا عليٍ كرم الله وجهه .
ما هو النفاق ؟
 أيها الأخوة, مع الدرس الثامن من سيرة سيدنا علي بن أبي طالب، وقد وعدناكم أن نقرأ عليكم بعض الشرح من مواعظ هذا الإمام الجليل، وكأنه يضع يده فيها رضي الله عنه على جراح المسلمين في عصور تأخُّرهم .
 فقبل أن نقرأ هذه الموعظة لا بد من مقدمةٍ قصيرة، وهي أن الإسلام في أول نشأته ما عرف النفاق، لكن بعد أن جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا واستتب الأمر للمسلمين، وانطلقت الجيوش تفتح مشارق الأرض ومغاربها، وتمكن الإيمان، عندئذٍ ظهر ما يسمى بالنفاق، طبعاً ظهر لأن القوة الكبيرة بيد المسلمين .
 والنفاق حالة ليست إيماناً وليست كفـراً، ظاهره شيء، وباطنه شيء، أفكاره في وادٍ، وسلوكه في واد، حاجاته يلبِّيها، وآخرته يرجئها، فهذا الإنسان البذيء نشأ في مجتمعٍ إسلامي، وسلك سلوكاً غير إسلامي، هو الذي يصفه هذا الإمام الجليل: " لا تكن مِمَّن يرجو الآخرة بغير عمل ".
هذا هو سبب ضياع المسلمين :
 أقول لكم: قد تجد إنسانًا إذا خطط لمستقبله، أو اختار عمله، أو تحرك حركةً في الدنيا يدخل في حساباته الأشياء الأساسية، مثلاً لو أنه أراد يؤسِّس مشروعًا، يفكر أوّلاً فيما لو أن ثمَّة مشروعًا آخر منافسًا، ثم يفكر لو أن هذه المادة الأولية مُنِع استرادها، ويفكر لو أن القوة الشرائية انخفضتْ، فلم يعُد المواطنُ يتمكن من شراء هذه السلعة، فالإنسان إذا أسس مشروعًا يُدخِل الحساباتِ المتوقعةَ بأكملها .
 الشيء العجيـب أن الناسَ حينما يتحرَّكون، فالغافل منهم لا يدخل حساب الآخرة في تخطيطه إطلاقاً، لا الموت، ولا الوقفةٌ بين يدي الله عزَّ وجل، ولا أيّ سؤالٍ حولَ هذا المال، كيف أخذته؟ ولمَ أنفقته بهذه الطريقة؟ هذه المرأة لمَ طلقتها؟ هذه السلعة لمَ بعتها، ولم تذكر عيبها؟ فهذا النموذج الذي يدخل في حساباته كل شيء إلا الآخرة, قال فيه الإمام على كرم الله وجهه: " لا تكن مِمَّن يرجو الآخرة بغير عمل " .
 لكن هذا الإنسان بالذات الذي لم يدخل في حساباته موضوع الآخرة إطلاقًا، لو كان في عقد قران مثلاً، لو كان في مجلس علم، لو كان في مناسبة دينية، والخطيب أو الداعي دعا اللهم ارزقنا الجنة، يقول آمين، آمين على ماذا؟ هذا الذي يقول آمين بصوتٍ مرتفع, وليس في سلوكه ما ينبئُ أنَّه يسعى للآخرة، هذا الإنسان، وهذا النموذج، وهذا المسلم هو الذي سبَّب ضياع المسلمين .
 فبينما أنْ يكون الإسلام منهجًا كاملاً، ينتظم كل حياتنا، ينتظم بيوتنا، أعمالنا، علاقاتنا، أفراحنا، قبض أموالنا وإنفاقها، وكل نشاطاتنا، وبين أن يكون الإسلام قد تقلص، وتقلص، وتقلص ، وانكمش، فصار صوماً وصلاةً وحجاً وزكاةً، هو في واد والحياة في وادٍ آخر، هذا الذي يعنيه الإمام علي كرم الله وجهه: " لا تكن ممَّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجِّي التوبة بطول الأمل "
احذر مغبة التسويف :
 فكل إنسان يقول لك: أنت شاب عندما تكبر وتتزوج وتمل من حياتك تتوب, هذا الذي يرجّي التوبة بطول الأمل، أليس هناك مغادرة للدنيا؟ أليس هناك آلاف الحوادث, فيها شابٌ يموت، إنسان في مقتبل حياته يصاب بمرض عضال؟ أليس هناك من يغادر الدنيا من دون سابق إنذار؟ فاليوم كنا في تشييع جنازة، والله شيء لا يصدق، إنسان يسكن في بيت, يضمُّ السرير والفراش، والغرفُ الدافئة، وغرف الطعام، كل هذا تركه، وحفرتْ له حفرةٌ، ووضع فيها، وأهيلَ الترابُ عليه، هذه حقائق، ليس مِن كلام أشدّ واقعية من هذا الكلام، كلنا مصيرنا إلى هذه الحفرة، ماذا في هذه الحفرة؟ هذا الكلام: " ويرجِّي التوبة بطول الأمل " .
 لذلك مَن عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت، إذا قلت: غداً سأفعل كذا وكذا, إذا توهمت أن غداً تملكه، هذا التوهم هو عين الجهل .
شخصية لم يعرفها المسلمون من قبل :
 قال: " لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجّي التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين ", أخطر شيء هذا الانفصام، هذه المسافة، هذه هذه الازدواجية، وكأن هذا الإنسان معه انفصام شخصية، له شخصيتان إذا تكلم تكلم بقول الزاهدين، وإذا عمل عمل بعمل الراغبين، فهذه الشخصية الثنائية في الإنسان، هذه المسافة الكبيرة بين الفكر وبين السلوك، هذه سمة عصور تخلُّف المسلمين .
لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب :
 قال: " يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين، إنْ أعطي منها لم يشبع، وإن مُنِع منها لم يقنع ", مهما أعطي لا يشبع، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول هذه الحقيقة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
" مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا " .
(أخرجه الدارمي في سننه عن ابن عباس )
 فإذا كان هناك نهم فاجعله في طلب العلم، اجعله في طلب الآخرة، إذا كان هناك نهم تسابق مع أهل الإيمان، التنافس مطلوب، الله عزَّ وجل يقول:
﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
( سورة المطففين الآية :26)
 الإنسان من طبيعته الغيرة، والحقيقة هذه الطبيعة لمصلحته، هذه الطبيعة تدعوه إلى أن يسابق أخوانه، لكنّ المشكلة ما موضوع السباق؟ الله عزَّ وجل ينتظر منا أنْ نتسابق في أمر الآخرة، في معرفته، في طلب العلم، في خدمة الخلق، في العمل الصالح، الآن الناس يتنافسون في الدنيا، في جمع الدرهم والدينار، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
( سورة الزخرف الآية : 32)
 لم يعُد الإنسان يكتفي بألوف مؤلفة، بل يريد ملايين مملينة، لو ترك ملايين مملينة، وقدِم على الله عزَّ وجل صفر اليدين من العمل الصالح، إنه مِن أخسر الناس .
هذا هو النكران الجميل :
 قال: " إن أعطي منها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي ", الحقيقة أنّ نعمة الشكر مِن أعظم النعم التي يتمتع بها المؤمن، نعمة الشكر أساسها اليقظة، الغفلة تسبب الكفر، فالإنسان أحياناً لو وضع قائمة للنعم التي عنده, فماذا عنده؟ عنده صحة، هذه أثمن شيء، عنده بيتٌ نظيف، وليس عنده أيّة مشكلة في البيت، زوجة مستقيمة مؤمنة، أولاد أبرار، هذه أكبر ثروة، له سمعةٌ طيبة، ثروة جديدة، عنده قوت يومه، كنت أذكر دائماً عن ملِك سأل وزيره: مَن الملك؟ فهذا الوزير أُحرِج، السائل هو الملِك نفسه، ويقول هذا الملِك: مَن الملِك؟ فسكت، فقال له: أجب، فقال له: أنت الملك، فقال هذا الملك: لا، الملك رجلٌ لا نعرفه ولا يعرفنا، له بيتٌ يؤويه, وزوجةٌ ترضيه, ورزقٌ يكفيه، إن عرفناه جهدنا في إحراجه، وإن عرفنا جهد في استرضائنا .
 فحينما يتمتع الإنسان بعقيدة سليمة عن الإيمان بالله، وبفكرة صحيحة عن الكون، فقد جمع لنفسه الخير و الفلاح، ماذا قال طرفة بن العبد:
 فإن كنتَ لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي
 ينطلق هذا الشاعر الجاهلي من فلسفة أساسها أن الدنيا من أجل المتعة، وأقوال الناس الآن، يقولون بهذا القول: أنت الآن في عز شبابك فتمتع بحياتك, وخذ منها على قدر استطاعتك، ما هذه الفلسفة؟ هذه فلسفة الشيطان، هذه فلسفة الجهلاء، فإذا كان للإنسان فلسفة صحيحة، عنده رؤية صحيحة لحقيقة الكون والحياة والإنسان، وعنده منظومة قيم تنتظم سلوكه، ومجموعة أوامر ونواهٍ يأتمر بها وينتهي بها، فهو إذًا له هدف واضح، وله طريق سالك لهذا الهدف، وهذا الإنسان عظيم ، فقد ارتقى سلّم السعادة والتألُّق .
 أيها الأخوة, أن النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟ قال:
" بل نبياً عبداً, أجوع يوماً فأذكره، وأشبع يوماً فأشكره ".
(ورد في الأثر)
 يبدو أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما اختار أن يكون نبياً عبداً من أجل أن يعلمنا أن نقص المواد لا قيمة له، لا قيمة له إطلاقاً، لا يسبب عقبةً تحول بينك وبين هدفك الكبير .
 إذًا: " يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي " .
النبي قدوة لنا في شكر المنعم :
 النبي عليه الصلاة والسلام عندما يستيقظ من الليل كان أول دعائه:
" الحمد لله الذي ردَّ إلي روحي " .
( ورد في الأثر)
 بعض الناس لا يستيقظون من نومهم، لقد عاجلهم الموت وهم نائمون, النعمة الثانية:
" وعافاني في بدني "
 ثم قام يمشي، ولا مكروه به، ولا آلام، الحواس الخمسة صحيحة، مع سلامة القلب والرئتين، والكليتين، والأمعاء والعضلات، والأعصاب، البنكرياس,
" وعافاني في بدني وأذن لي بذكره ".
( ورد في الأثر)
 كان إذا دخل بيت الخلاء, يقول:
" الحمد لله الذي أذاقني لذَّته, وأبقى فيَّ قوته، وأذهب عني أذاه " .
(ورد في الأثر)
 وأقول هذا الكلام كثيراً: المهم أنّ معه مفتاحًا، سواء كان البيت صغيرًا أو كبيرًا، عاليًا أو منخفضًا، مستأجرًا أو ملكًا، كله سيّان، له مأوى, دخل إلى البيت فوجد زوجة قد طبخت، وله أولاد، يملؤون هذا البيت أنساً ومرحاً، هذه هي الحياة .
 وحينما يتجاهل الإنسان هذه النعم الأساسية، ويبحث عن نعم مترفة لينافس غيره، وليظهر أمام الناس بمظهر فخم، فهذا الإنسان شقي، وهو بالأساس شقي، شَقِيَ ويشقي, قال: " يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي " .
هذا هو الغبي :
 قال: " أندم الناس رجل دخل الناس بعلمه الجنة، ودخل هو بعلمه النار", والنبي عليه الصلاة والسلام له حديث مخيف, قال:
أهل النار وهم في النار يرون رجلاً كان له تألُّقٌ شديد في الدنيا في مجال الدعوة، تألق شديد، رأوه في النار، وقد اندلقت أمعاؤه، يقال له: أأنت فلان؟ يقول : نعم، يقال له: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ يقول: " كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ", وهذا الحديث فيما معناه .
( ورد في الأثر)
 وكنت أقول لكم دائماً: ما من عملٍ يتذبذب بين التفاهة وبين الخطورة كالدعوة إلى الله، فبينمــا أن يكون هذا الداعية الذي أخلص لله عزَّ وجل، وطبق أمر الله عزَّ وجل في أعلى أنواع التألق، فلو أنه كان يقول كلاماً لا يطبقه، لهبط في عين الله عزَّ وجل إلى حضيض الأوحال, " ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين، ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم " .
 فنحن الذي يعنينا من هذا الدرس أنَّ الإسلام ليس فيه حل وسط، والحقيقة عندما الإنسان يقصر يصبح وضعه صعب جداً، لا هو مؤمن يقطف ثمار إيمانه، ولا هو كافر، فالله عزَّ وجل يضعه خارج العناية الإلهية، فيعطيه الدنيا كما يشاء، ثم يقصمه مرة واحدة، لا هو من هؤلاء فيقطف ثمار الإيمان، ولا هو من هؤلاء فيعطى الدنيا كما يريد, والحقيقة هناك أقوال كثيرة مشابهة لحال المنافق منها, أن أخطر شيءٍ في مضمارِ العلم نصف العالم، لا هو عالم فيفيد من علمه، ولا هو جاهل فيقبل أن يتعلم .
 الإيمان ليس فيه وسط، لأنّه إذا وُجد تقصير أدّى ذلك إلى حجاب، فمثلاً: عقيدة جيدة، وطموحات إيمانية، وخوف من النار، ومع كل ذلك لديه تقصير، فهذا التقصير َسَّبَب الحجاب، وهذا الحجاب سبَّبَ مللاً، فليس مِن إنسان يمل مِن طلب العلم إلا بسبب عدم الرغبة في التطبيق .
 إذا دعاك شخص إلى طعام، فوضع صحونًا وملاعق وحاجات أخرى، ولكن لم يضع طعامًا، ويقول لك: تفضل، وأنت استحيَيْت أنْ تتكلم معه، دعاك مرة أخرى فلم يضع شيئًا من الطعام، فإنْ دعاك مرة ثالثة لن تحضر, فعندما الإنسان يقوم بعبادة، يصلي ويصوم ويقرأ القرآن ، ولا يكون له اتصال بالله بسبب ذنب من الذنوب فهو في حجاب، هذا الحجاب يفرِّغ هذه العبادة من مضمونها، فعنده الصلاة صارت جوفاء، والصيام أجوف، والحج أجوف، كل هذه العبادات التي كان من الممكن أن ينهض به إلى الله، وأن ترقى به إلى الله، فبتقصيره فرَّغ العبادة من مضمونها .
هذا هو سر الإسلام :
 هناك نقطة أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني كي تكون واضحةً بين أيديكم، فكل واحد مسلم يمكنه أنْ يجرب الصلحَ مع الله مئة في المئة، ويستقيم مئة في المئة، ويضبط لسانه مئة في المئة، ويضبط عينه مئة في المئة، ويضبط أذنه مئة في المئة، ويضبط دخله مئة في المئة، ويضبـط إنفاقه مئـة في المئـة، ويصلي، يشعر أنه قريب من الله، وفي أي فرضٍ مِن الصلاة بإمكانه أن يتوجه إلى الله بقلبه ونفسه، ليس شرطًا أن يبكي، لكنْ حقيقةً له توجُّهٌ إلى الله عزَّ وجل ، لأن الطريق سالك بلا عقبات، وجهه أبيض، له دالةٌ على الله .
 وقد كنت أضرب مثلاً، إذا لم يعمل أعمالاً صالحة، لكنه إذا استقام فقط، ففي الجيش هناك رتـب، يوجد لواء، قائد فرقة، وعميد، وعقيد، ومقدم، ورائد ونقيب، وملازم أول، وملازم ثاني، ومساعد، ورقيب، وعريف، وجندي محترف، وجندي مجند، وجندي غر، أليس كذلك؟ أيقدر مجند غر أنْ يدخل على اللواء من دون استئذان؟ مستحيل، يحتاج إلى طلب، بل إلى طلبات عن طريق التسلسل، وأعتقد أغلب الظن أنه لا يستطيع، لكن هذا اللواء لو كان له ابن، وكان يسبح في مكان عميق، وأشرف على الغرق، فهذا المجند الغر يتقن السباحة تماماً، فألقى بنفسه، وأنقذ هذا الغلام من موتٍ محقَّق، وجاء في اليوم التالي إلى غرفة هذا اللواء، وقال للحاجب قل له: فلان، ماذا يقول له هذا اللواء؟ يقول له: تفضل، أين أصبحت الرتب؟ أين العقبات؟ أين التسلسل؟ التغت كلها، لأن له عملاً صالحًا، هذا العمل بيَّض وجهه، هذا العمل أعطاه قوة اقتحام، أعطاه قوة اندفاع ، هذا مثل بسيط .
 فمرة كنت في سهرة، قال لي أخ: دلَّنا على طريق الاتصال بالله، قلت له كلمتين: استقم على أمره، واخدم عباده، وقِفْ وصلّ وانظر .
 مرة صليت بالحرم النبوي في أول عمرة أكرمني الله بها وراء إمام، أنا أظن به ظناً حسناً، صوته حسن، ويبدو أن له قلباً موصولاً بالله عزَّ وجل، والله أيها الأخوة، قرأ في الركعة الأولى سورة الجن، وفي الركعة الثانية سورة المزمل، والله الذي لا إله إلا هو لو أنه بقي يصلي حتى الظهر لكنـت ممتناً له، قلت هذه الكلمة: حقًّا هذه الصلاة التي أمرنا الله بها، أنت الآن تتصل بخالق الكون، فالله عنده تجليات, عنده سكينة يلقيها على قلبك، فتشعر بالطمأنينة، تشعر بالسكينة، تشعر بقيمتك كإنسان، تشعر أن علاقتك مع الله فقط، تشعر أنّ الدنيا تافهة، صارت لك صلة حميمة بالله .
 هناك رجل عالم جليل من كبار الدعاة سافر إلى بلد ليجري عملية جراحية كبيرة، فقابله صحفيٌّ وسأله: ما هذه المكانة الكبيرة التي أكرمك الله بها؟ قال له: واللهِ هذه مِن الله، فلما ألح عليه، قال له: لأنني محسوبٌ على الله، أنا لستُ محسوبًا على جهة أرضية، أنا محسوب على الله ، كلمة فيها أدب، أنا لستُ أهلاً، لكن هكذا حُسِبْتُ على الله، فأنت محسوب على الله، أنت محسوب مع المصلين، محسوب مع روَّاد المساجد، محسوب مع المؤمنين، محسوب مع الذين يبتغون وجه الله، فإذا كانت لك أخطاء طفيفة، مخالفات طفيفة بالجوارح الخمس، بالسمع, بالبصر، باللسان، باليد ، بالرجل، بكسب المال، بإنفاق المال، بالبيت، بالعمل، هناك مخالفات اضبطها واتصل بالله، وهذا واللهِ الذي لا إله إلا هو لسرُّ الإسلام، فالإسلام عظمته بهذا القلب الممتلئِ بالتجلي الإلهي، بهذا القلب الممتلئِ بنور الله، بسكينة الله، بهذا القلب الذي لا يخاف ولا يذل، ولا يشعر بالقهر، ولا يشعر بالندم .
 الإنسان أراه أحياناً مثل قطعة القماش البالية متهالكًا، ضعيفَ المعنويات، يائس، مقهور ، خائف، قد ينافق، أيام يتذلل، وقد يبذل ماء وجهه، أحيانا من أجل عرَضٍ طفيف جداً تجده بذل ماء وجهه، حتى هان وسقط من عين الله .
كن عزيز النفس أيها المسلم :
 سيدنا عمر جاءه رجل يبدو أنه طلب طلبًا بإلحاح، فما رضي له بهذا الموقف الذليل، قال له: " يا هذا لقد أضعت من نفسك أكثر مما ضاع منك ", أضعت من مكانتك، أضعت من كرامتك، أضعت من إنسانيتك أكثر مما ضاع منك، النبي علمنا:
" ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير "
(ورد في الأثر)
 النبي الكريم علمنا، فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ, قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيقُ "
(أخرجه الترمذي عن حذيفة في سننه )
 أنت تمثل هذا الدين، لماذا للسفير سيارة فخمة، ويرتدي أجمل الثياب؟ لأنه يمثل أمة، هندامه ليس ملكه، هندامه ملك أمته، مكانته طلاقة لسانه، يختارونه مثقفًا ثقافة عالية، يتقن لغتين أو ثلاثًا، يتقن عدة اختصاصات .
ينبغي على المسلم أن يحصن نفسه من المهلكات :
 المؤمن لا يتألق إلا بالطاعة التامة لله عزَّ وجل، اضبط لسانك نهائيا، وابتعد عن الغيبة مهما كلَّف الأمر, أحد العلماء الأجلاء، وهو الشيخ بدر الدين الحسني، إذا حضر أحدٌ لا يتكلم أمامه كلمة ، فإنْ تكلم أحدٌ, قال فوراً: اسكت يابا، أظلم قلبي، عوِّد نفسك ألاّ تغتاب .
 رجل مستقيم مقبل على الله عزَّ وجل، موفق في عمله، له حسَّاد كثيرون، هؤلاء الحساد نهشوا من لحمه، واغتابوه بحق وبغير حق، فلما قال له أحدهم: إني أشفق عليك مما يقوله عنك الناس، فقال: " هل سمعت مني عنهم شيئاً؟ قال لا، قال: إذًا عليهم فأشقق " .
 فأنا الذي أرجوه من الله عزَّ وجل، والقضية سهلة، وبمتناول يدك أيها الأخ, غضُّ البصر بحزم، مع الامتناع عن سماع الغناء، والامتناعُ عن الكذب والغيبة والنميمة والسباب والفحش والاستهزاء، وأنت تعرف ذلك بالفطرة، وبعدها تصل, كسب المال الحلال مئة في المئة، لا تكذب مهما كلفك الأمر، قال تعالى:
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾
( سورة الجن الآية : 16-17)
 أخواننا الكرام، ثمرات الدين يمكنك أنْ تسمِّيَها معنويات عالية، تسميها سكينة، وأنْ تصف المؤمن أنه شخص متألِّق، شخصية فذة، يمكنك أن تسمي المؤمن شخصًا متوازنًا، فالله عزَّ وجل يتجلى عليك بطريقةٍ تشعر معها أنك إنسان متميز، هذا ثمن الاستقامة .
غفلة الإنسان عن سنة الله في خلقه :
 قال: " يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت من أجله إنْ سَقِمَ ظلَّ نادماً، وإن صحَّ أَمِن لاهياً ", يكره الموت لكثرة ذنوبه, اسمعوا هذا المقياس الإلهي:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾
( سورة الجمعة الآية : 6-7)
 يعني تمنِّي الموت، أو عدم الخوف من الموت محكٌّ أساسي، يكشف لك حقيقة إيمانك .
 أعرف رجلاً أصيب بأزمة، أُدخِل العناية المشددة بالمستشفى، بعد أسابيع فرِّج عنه، يعني هذه الجلطة مُيِّعت، عاد إلى نشاطه, وإلى لهوه, وإلى انحرافه، وإلى نواديه الليلية، ثم بعد توفاه الله عزَّ وجل, أيْ أنّ ربنا عزَّ وجل وجَّه له إنذارًا مبَكِّرًا، في بعض القرى فيها مولدات كهربائية محدودة، تستمر حتى الثانية عشرة ليلاً، فقبل عشر دقائق يُطفَأ التيار على الناس لدقيقة واحدة، هذه إشارة أنه اقترب انقطاع التيار النهائي .
 فالله عزَّ وجل جعل لنا في الحياة إنذارات عديدة, مرة الشيب، مرة بضعف البصر، فالله عزَّ وجل قادر على أن يبقيَ الإنسانَ في أعلى درجات نشاطه حتى الموت، فقبل عشر سنوات من أَجَلِه يحتاج إلى وضع نظارات، وأن يضع بدلة لأسنانه، طبعاً هذا الضعف لأعضائه أو لحواسه لَفْتُ نظرٍ لطيف مِنَ الله سبحانه، أنْ يا عبدي قد اقترب اللقاء، فهل أنت مستعد؟ هيئْ نفسك .
من طبع الإنسان اللؤم :
 قال: " يعجب بنفسه إذا عُوفي، ويقنط إذا ابتلي، إن أصابه بلاءٌ دعا مضطراً، وإنْ ناله رخاءٌ أعرض مضطراً ", كل إنسان على الضغط يتوب، لكن يا ترى أنت ألاَ تحب أنْ يكون لك مع الله موقف مشرِّف، ودون مرض تدعو: يا رب، وتصلي بخشوع وإقبال، تدعو الله، وأنت لست مضطراً، النبي عليه الصلاة والسلام, يقول:
" أمرني الله بتسع, خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى "
( ورد في الأثر)
 أن تقصد الله عزَّ وجل، وأنت فقير، وأنت غني، وأنت مريض، وأنت صحيح، وأنت قوي، وأنت ضعيف، ويستوي لديك المرض مع الصحة، والغنى مع الفقر, والقوة مع الضعف في دعائك واتصالك، وأورادك وتلاوتك، وحضور مجالس العلم .
 بعض الناس يشعـر بفضل الله إذا تألق عمله وتجارته، ثمّ لم نعد نراه، ويتعلّل بقوله: مشغول يا أستاذ، أعذرني، وعندما تنشأ معه مشكلة كبيرة في عمله يحضر إلى الدروس، كلما شدّد الله عليه يحضر، كلما أرخى الحبل يترك، الإنسان بطولته وهو في الرخاء, " ابن آدم اعرفني في الرخاء أعرفك في الشدة " .
من تبع هوى نفسه فقد ضل :
 قال: " تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن "، فالموت يقيني، والأمل الطويل ظني، " تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن ", سيدنا أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى له كلمة ما رأيت كلمة أكثر منطقية منها، يخاطب نفسه يقول لها وهذا كلام لنا جميعاً: " يا نفس لو أن طبيباً منعك من أكلةٍ تحبينها، لا شك أنك تمتنعين عنها, يا نفس أيكون الطبيب أصدق عندك من الله؟ " .
 الطبيب بَشَرٌ ضعيف من جنسك، قال لك: هذه الأكلة لا تناسبك، وهذه الأكلة تسبب لك متاعب كثيرة، فأنت من خوفك على صحتك امتنعت عنها بشكلٍ حازم, أيكون الطبيب مصدّقاً, وإلهُ الكون يقول لك؟
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾
( سورة الحجرات الآية : 12)
 أيكون الطبيب عندكٍ أصدق من الله؟ إذًا: ما أكفركِ ! ", ثم يقول لنفسه: " أيكون وعيد الطبيب أشد عندكِ من وعيد الله؟ إذًا: ما أجهلكِ! ", إنّ الله صادق، لكن المرض عنده أشدُّ إخافةً من جهنم، إذًا: ما أجهلك ! .
 كل إنسان يعصي الله عزَّ وجل مدموغ إما بالكفر، وإمّا بالجهل، فهذا معنى: " تغلبه الناس على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن ".
أقوال شتى :
 قال: " يخاف على غيره بأدنى من ذنبه, ويرجو لنفسه بأكثر من عمله ", تجده إذا لمح إنسانًا غلط غلطة، يقول له: الله يعينك على آخرتك، وأنت؟ يعني يرى قشةً في عين أخيه، ولا يرى جذعاً في عينه، فالقياس بالمقياسين شيء لا يليق بالإنسان .
 قال: " إن استغنى بطر وفتر، وإن افتقر قنط ووهن، يقصر إذا عمل, ويبالغ إذا سأل، سؤاله سؤال المضطرين، أما عمله عمل المغتصبين ", الحقيقة أنّ عندك قولًا وعملاً دائماً، هناك شخص قوله على قدرِ عمله، وهناك شخص قوله أكثرُ مِن عمله، هذا ثرثار، وهناك شخص عمله أبلغ من قوله، وهذا إنسان عظيم يعمل بصمت، وهناك شخص يتكلم بقدر ما يعمل، هذه بتلك، وهناك شخص يعمل ولا يتكلم، هذا إنسان عظيم، وهناك شخص عمله على قدر كلامه، هذا بين و بين .
 قال: " إذا عرضت له شهوةٌ أسلف المعصية وسوَّف التوبة، وإن عرته محنةٌ انفرج عن شرائط الملة، يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظةِ ولا يتعظ، فهو بالقول مدل, ومن العمل مقل، ينافس فيما يفنى, ويسامح فيما يبقى، يرى الغنم مغرماً, والغرم مغنماً، يخشى الموت ، ولا يبادر الفوت، يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على الناس طاعن ولنفسه مداهن، اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء ".
 فهذا هو الإنسان المنافق الذي خط لنفسه طريقاً لا يرضي الله، واعتقد اعتقاداتٍ مشابهةً للمؤمنين، فهذا النموذج الذي وصفه هذا الإمام الجليل نرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون في حرزٍ حريز من هذه الأوصاف التي لا ترقى بالإنسان .
من هؤلاء الذين يصفهم الإمام بالهمج الرعاع ؟
 قال: " إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها, فيا كميل احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة, عالمٌ رباني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع ", يعني هناك أناس مع الغوغاء، هؤلاء يسمونهم الشريط العريض في المجتمع، هؤلاء يتبعون شهواتهم، ويتبعون صرعات الأزياء، يتحدثون فيما لا يعنيهم، هم مع الناس إنْ أحسن الناس أحسنوا، إنْ أساؤوا أساؤوا مثلهم، هؤلاء يتموجون، هؤلاء هم الهمج الرعاع، وهناك عالمٌ رباني, أي متصلٌ بالله عزَّ وجل، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، اللهم اجعلنا من المتعلمين على سبيل النجاة .
 قال: " هؤلاء الهمج الرعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق، فاحذر يا كميل أن تكون منهم، يا كميل، العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله ", الحقيقة العلم حارس، والمال يحتاج إلى حراس، العلم نفسه يحرسك .
عاقبة المفرط :
 ذات مرة سائق تكسي في دمشق، استوقفته امرأة ترتدي عباءة فلما ركبت، قال: إلى أين يا أختي؟ قالت له: خذني إلى حيث تشاء، وناولته ظرفاً فيه مبلغ كبير من العملات الصعبة، فهذا السائق، بحسب جهله الكبير، قال في نفسه: رأينا ليلة القدر، قضى حاجته، وأخذ هذا المبلغ، وأرجعها إلى المكانِ الذي أخذها منه، ومع هذا المبلغ رسالة، فضَّ الرسالة، فإذا فيها كلمة، تقول له: لقد أصبحت عضواً في نادي الإيدز .
 وأنا بلغني أنّ النساء اللواتي يصبن بهذا المرض عندهن رغبةٌ جامحةٌ جداً أن يوسِّعن دائرة هذا المرض بشكلٍ مخيف، هذا أسقط في يده، لكن قال هذا المبلغ كبير ينفعنا، فلما ذهب ليصرف المبلغ فإذا هو مزور، وأخذ إلى السجن, هذه الحادثة وقعت في دمشق قبل سنة تقريباً، وتعليقي على هذه القصة، لو أن هذا السائق كان مؤمنًا لوضع رجله في ظهرها، وركلها خارج السيارة، أليس كذلك؟ ونجا من المرض، ومن السجن، لأن العلم حرسه .
 مرة أحد الأشخاص سألني وهو يبكي، قال لي: زوجتي تخونني منذ ثلاث سنين، وقال: الأمس اكتشفت ذلك، هو في عمله طيلة النهار, يأتي مساءً يتناول طعام العشاء، ويشرب كأساً من الشاي، وينام نوماً عميقاً، بعد ثلاث سنوات، خطر في باله أن هذا الكأس ينبغي ألاّ يشربه، وبقي صاحيًا، إذًا: هناك رجل يأتي إلى البيت بعد أن ينام الزوجُ نوماً عميقاً، فسألتُه: مَن هذا الرجل؟ قال: جارنا في البناية، كيف تعرفتَ عليه؟ قال لي: ذات ليلة كنت سهران، وطرق بابَنا ليزورنا، وقلت لزوجتي: تعاليْ أمَّ فلان، اجلسي معنا، هذا مثل أخوكِ, وكانت هذه بداية الخيانة، قلت له: لو أنك حضرت مجلس علمٍ، وعرفت أنّ هذا الاختلاط لا يجوز، وأنك كنت السبب لَما فعلت هذا ، قال لي: كلامك حقٌّ وصواب .
قيمة العلم الشرعي في ضمان حياة البشر :
 أيها الأخوة، ما مِن مشكلةٍ على وجه الأرض، إلا ووراءها معصية لله، وما من معصيةٍ إلا وراءها جهلٌ بشرع الله, فالذي يحضر دروس العلم, فما حصيلة ذلك؟ هذا يحصِّن نفسه، لأن هناك قوانين دقيقة جداً، فعندما يسمح رجلٌ لزوجته أنْ تختلط مع جاره فلا بد أنْ يدفع الثمن غاليًا
 ببساطة, أعرابي وهو سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ,
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام: قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلا لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ, قَالَ: " قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ " .
(أخرجه أحمد في مسنده )
 يقول لك: أخي لا تتزمت كثيرًا، حلها برمة، فيمكن أنْ يقول لمهندس العمار: أخي لا تشدد علي كثيرًا، بدلَ قياس ثمانية مليمتر اجعل ستة مليمتر، ويكفي كيسان فقط، هذا كلام غير مسموع، هنا علم، هذا بناء مِن ثلاثة طوابق، لو وضعنا كيسين إسمنت تقع البناية، لو كان الحديد أقل ممَّا ينبغي ينهار البناء، ففي الهندسة ليس ثمة مجاملة، فكل إنسان يقول لك: حلها برمة، لا تشدد, لا تتزمت, هذا كلامه غير مسموع .
 أحد الطلاب أخبرني مرة، فقال: لي أخ يعمل في معمل ثماني ساعات، وعنده ثلاثة أولاد, ولدٌ منه، وولد مني، وولدٌ من أخي الآخر, قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:
" الحمو الموت " .
(ورد في الأثر)
 هكذا النبي أخبر، فلو أخذت ملفات القضاة، لو أخذت ملفات مخافر الشرطة، ودرست كل قضية، فببساطة وسهولة أنْ تجد كل مشكلة وراءها معصية, فلما يحضر الإنسان مجلس علم، ويعرف الحرام والحلال، وما ينبغي وما لا ينبغي، ما يجوز وما لا يجوز، لا توجد عنه هذه المشكلات, فبشكل دقيق جداً، مشكلاتنا الأسرية والاجتماعية والتجارية والمالية أساسها المعاصي، والمعاصي أساسها الجهل دائمًا .
 فالذي يريد الحياةَ هادئة ليس فيها مطبّات، وليس فيها انحرافات، وليس فيها انفجار داخلي، ولا أزمات ساحقة، فعليه أنْ يستقيم على أمر الله عزَّ وجل, قال له: " يا كميل، العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال" .
 المشكلة أن الإنسان يتحرك من دون علم، وإذا تحرك من دون علم قطعاً سوف يأخذ ما ليس له، وسيقع في الكذب, والغش، والربا، والغبن، حينما يقع في هذه المعاصي يؤدِّبه الله تعالى ، أما لو تعلَّم، وطبّق المنهج يكرمه الله، والمال ينمو بالصدقات، ويتلف بالربا .
 في أحداث لبنان، حدثني أخ في محل بالبرج، أضخم محل أجبان، فيه بضائع بمبالغ خيالية، فأول جولة حرب انتهت، المحل الذي على يمينه محروق ومنهوب، والذي على يساره محروق ومنهوب، والذي فوقه محروق ومنهوب، والغلق محروق، فلما انفرج الأمر، هذا أسرع إلى دكانه وفتح المحل، هذا رجل مسلم، يدفع زكاة ماله، أقسم بالله وجده كما أغلقه قبل أشهر هو هو، فتح الصندوق، هناك مبلغ من المال وجده هو هو، فحينما دفع زكاة ماله ما بقي أحدٌ من جيرانه إلا اتهمه بالغباء، قالوا له: ادفع هذا المبلغ للمصرف وخذ فائدته، لكنه دفعه زكاة ماله، إذًا: تأكَّدْ يا أخي أنه ما تلف مالٌ في برٍ أو بحر إلا بحبس الزكاة .
 فأنا أرى أن الإنسان يتميز عن سائر المخلوقات بالقوة الإدراكية، وهي العقل، هذه القوة الإدراكية تحتاج إلى أن تلبي هذه الحاجة، فكل إنسان يطلب العلم، معناها أكَّد إنسانيته، أكد في كيانه إنسانيته، وكل إنسان أهمل العلم هبط إلى مستوى آخر دون المستوى الحقيقي, " فيا كميل، العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال, والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق " .
العالم ذكره لا يموت :
 إذا سمع أحدُكم تفسيرَ آية، أو تفسيرَ حديث، أو نقطة شرعية دقيقة وحفظها، فليحاولْ في مناسبة ما أنْ ينقلها للأخوان، إن تكلمت بها مرةً واحدة ثبتت، أو مرتين، أو ثلاثًا، بإمكانك أن تنفقها آلاف المرات، وكلما أنفقتها ازداد امتلاكك إياها، وربما تعمَّقت في فهمها، فالعلم يزكو على الإنفاق, " يا كميل هلك خزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، العلماء باقون أعيانهم مفقودة, وأمثالهم في القلوب موجودة " .
 الإنسان يموت، لكن واللهِ أيها الأخوة مَن يطلب العلم، ويعلِّم بإخلاص لا يموت، يموت جسمه، لكنّ ذِكْرَه على كل لسان، واسمه في كل بيت، وهذا بين أيديكم, العالم الإسلامي من شرقه إلى مغربه، كم مرة يسمع ذكر الإمام الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وسيدنا الصديق، وسيدنا عمر ، وسيدنا صلاح الدين، وسيدنا عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء الذين أَعطَوا ولم يأخذوا، هؤلاء لم يموتوا, " يا كميل هلك خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة " .
اسمعوا هذه الكلمة :
 قال: " لو أصبتُ لهذا العلم لا أصيب إلا حملةً، أصبت لقناً غير مأمونٍ عليه، مستعملاً آلةَ الدين للدنيا ", فأصعب شيء في الحياة أن الإنسان يستخدم الدين للارتزاق, " أو قائدًا لحملة الحق، ولا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه لأول عارضٍ من شبهةٍ لا إلى ذاك ولا إلى ذاك، أو منهوماً باللذة سلس القياد للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شيءٍ شبهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى، لا تَخْلُو الأرض من قائمٍ بحجة الله، إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم ذا, وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلون عدداً, والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته، حتى يودعوها نظرائهم,  ويزرعونها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة, وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استخشنه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها معلقةٌ بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه، آه شوقاً إلى رؤيتهم ", وهذه الكلمة لهذا الإمام الجليل، تبين المزالق التي يمكن أن ينزلق بها مَن ينتمون إلى هذا العلم، وتبين حقائق الدعاة إلى الله الصادقين .
 أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعا بما علمنا, وأن يلهمنا تعليم الناس الخير .
والحمد لله رب العالمين

تنبيه : المرجوا عدم نسخ الموضوع بدون ذكر مصدره المرفق بالرابط المباشر للموضوع الأصلي وإسم المدونة وشكرا

0 التعليقات:

آخر المواضيع



أذكر الله



تابعني في Google+

قصص الأنبياء والرسل





الخلفاء الراشدين

المقدمة

 لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد: تتناول هذه الدراسة موضوعًا شائكًا في التاريخ الإسلامي المبكر، يعد من أهم الموضوعات في مجال البحث العلمي >>>>>>>>

أبو بكر الصديق رضي الله عنه

هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن كعب التيمي القرشي ، ولد بمكة ونشأ سيداً من سادات قريش ومحيطاً بأنساب القبائل وأخبارها . وكانت العرب تلقبه بعالم قريش ، حرم على نفسه الخمر في الجاهلية فلم يشربها . اشتغل بالتجارة وجمع ثروة كبيرة صار بها من أثرياء قريش

   الجزء 1  الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5

عمر بن الخطاب رضي الله عنه

هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل القرشى العدوي . ثانى الخلفاء الراشدين وأول من لقب بأمير المؤمنين . كان فى الجاهلية من أبطال قريش وأشرافهم وله السفارة فيهم ، ينافر عنهم وينذر من أرادوا إنذاره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو قائلاً : اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك ( عمر بن الخطاب أو أبى جهل )

  الجزء 1  الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7

عثمان بن عفان رضي الله عنه

هو أبو عبد الله عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية القرشى الأموى أمير المؤمنين . ذو النورين ثالث الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة ورابع من دخل فى الإسلام . زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته رقية ، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرتين ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة .

الجزء 1  الجزء 2 الجزء3 

على بن أبى طالب رضي الله عنه

هو أبو الحسن علي بن أبى طالب بن عبد المطلب الهاشمى القرشى . أمير المؤمنين ، رابع الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة وابن عم النبى صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء ووالد الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة

  الجزء 1  الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5



الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى

الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى
يقول الأستاذ الدكتور/ وهبة الزحيلي: ولقد بدأت نواة المذاهب في عصر الصحابة.... فكان - مثلاً - مذهب عائشة،

الامام مالك بن أنس رحمه الله
اجتمعت الأسرة الصغيرة ذات مساء. كما تعودت بعد كل صلاة عشاء. تتذاكر أمور الحياة والدين فيحكي الأب عما صادفه وجه النهار في متجره الصغيرة الذي يبيع فيه الحرير، وعما

الإمام الشافعي رحمه الله
على الرغم من أن الإمام الشافعي لم يكن قاضيا في مصر قط، فإن أهل مصر يسمونه "قاضي الشريعة" .. ومازال العديد من أصحاب الحاجات الذين لم ينالوا حظا من التعليم

الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله
صامت يطيل السكوت والتأمل، حزين يكاد لا يبتسم، وفي وجهه مع ذلك البشاشة وعلى قسامته الرضا، لا يتكلم إلا إذا سئل فلا يبتدر أحدا بحديث .. حتى إذا جلس

الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله
فالإمام أبو حنيفة النعمان قيل عنه: ((من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عالة على أبي حنيفة)) يعني أنّ أبا حنيفة يقع في قمة الفقهاء، ليس غريباً: أن نرى أن مذهبه انتشر

الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله
فالإمام أبو حنيفة النعمان قيل عنه: ((من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عالة على أبي حنيفة)) يعني أنّ أبا حنيفة يقع في قمة الفقهاء، ليس غريباً: أن نرى أن مذهبه انتشر