الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى
الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالىواتفاقهم ليس إجماعًا بالإجماع
محمود داود دسوقي خطابي
الحمد لله بارئ
البريات، وغافر الخطيئات، وعالم الخفيات، المُطَّلع على الضمائر،
أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، لا تدركه الأبصار،
ولا تغيره الأعصار، ولا تتوهمه الأفكار، وكل شيء عنده بمقدار، وصلى
الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء، وسيد
الأولياء الأصفياء، وإمام العلماء، وأكرم مَن مشى تحت أديم السماء،
أو تعاقب عليه ليل أو نهار، وعلى آله وصحبه الأبرار، ومن تبعهم
بإحسان إلى يومٍ تشخص فيه الأبصار.
أما بعد:
فإن الله سبحانه
وتعالى خلق الإنسان بيده وعلَّمه، ورفع قدر العلم وعظَّمه، وخص به
مِن خلقه مَن كرَّمه، وحض عباده المؤمنين على النفير للتفقه في
الدين، فقال تعالى - وهو أصدق القائلين -: ﴿
فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
﴾ [التوبة: 122]، ندبهم إلى إنذار بريته، كما ندب إلى أهل رسالته،
ومنحهم ميراث أهل نبوته، واختصهم مِن بين عباده بخشيته، فقال تعالى:
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، ثم أمر سائر الناس بسؤالهم،
فقال سبحانه: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]،
وجعل سبحانه هذه الأمة مع علمائها، كالأمم الخالية مع أنبيائها،
فهؤلاء العلماء هم المقتدى بفعالهم، "فاتفاقهم حجة قاطعة،
واختلافهم رحمة واسعة"، تحيا القلوب بأخبارهم، وتحصل السعادة
باقتفاء آثارهم، فيجب على المُكلَّف أن يكون من أمر دينه على بصيرة،
فإنه يجب عليه أن يشمر كي يتفقه في دينه كما أراد الله عز وجل، على
سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بفهم علماء هذه الأمة؛ حتى يفوز
بأعلى الدرجات عند الله عز وجل ﴿ فِي
مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 55]؛
ولهذا قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرًا،
يفقهه في الدين))[1].
وبداية، فهذه إطلالة موجزة حول
الأئمة الأربعة، واتفاقهم ليس إجماعًا بالإجماع:
أما الأئمة الأربعة
رحمهم الله تعالى، فهم أصحاب المذاهب الأربعة السنية المتبَعة:
(1) الإمام أبو حنيفة
النعمان (80-150هـ رحمه الله تعالى) مؤسس المذهب الحنفي.
(2) الإمام مالك بن أنس
(93-179 هـ رحمه الله تعالى) مؤسس المذهب المالكي.
(3) الإمام الشافعي (محمد بن
إدريس) (150- 204هـ رحمه الله تعالى) مؤسس المذهب الشافعي.
(4) الإمام أحمد بن حنبل
(164-241 هـ رحمه الله تعالى) مؤسس المذهب الحنبلي.
ظهور المذاهب:
يقول الأستاذ الدكتور/
وهبة الزحيلي[2]:
ولقد بدأت نواة المذاهب في عصر الصحابة.... فكان - مثلاً - مذهب
عائشة، ومذهب عبدالله بن عمر، ومذهب عبدالله بن مسعود، وغيرهم، ثم
في عصر التابعين اشتهر فقهاء المدينة السبعة (وهم: سعيد بن المسيب،
وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن
عبدالرحمن بن حارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيدالله بن عبدالله
بن عتبة بن مسعود)، ونافع مولى عبدالله بن عمر، ومن أهل الكوفة:
علقمة بن مسعود، وإبراهيم النخعي شيخ حماد بن أبي سليمان شيخ أبي
حنيفة، ومن أهل البصرة: الحسن البصري، وهناك بين التابعين فقهاء
آخرون؛ مثل: عكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس بن
كَيسان، ومحمد بن سيرين، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأعرج،
وعلقمة النخعي، والشعبي، وشريح، وسعيد بن جبير، ومكحول الدمشقي،
وأبو إدريس الخولاني، وفي أول القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع
الهجري، وهو الدور الذهبي للاجتهاد، لمع في الأفق ثلاثة عشر
مجتهدًا، دُوِّنت مذاهبهم، وقُلِّدت آراؤهم، وهم: سفيان بن عيينة
بمكة، ومالك بن أنس بالمدينة، والحسن البصري بالبصرة، وأبو حنيفة
وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، والشافعي والليث بن سعد
بمصر، وإسحاق بن راهويه بنيسابور، وأبو ثور وأحمد وداود الظاهري
وابن جرير ببغداد، إلا أن أكثر هذه المذاهب لم يبقَ إلا في بطون
الكتب؛ لانقراض أتباعها، وظل بعضها قائمًا مشهورًا إلى يومنا هذا.
نبذة[3]
عن الأئمة الأربعة:
أولاً: الإمام الأعظم أبو
حنيفة النعمان بن ثابت بن زُوطَى الكوفي، من أبناء فارس الأحرار،
عاصر أوج الدولتين الأموية والعباسية، وهو من أتباع التابعين،
وقيل: من التابعين، لقي أنس بن مالك، وروى عنه حديث: ((طلب العلم
فريضة على كل مسلم))، وهو إمام أهل الرأي، وفقيه أهل العراق، صاحب
المذهب الحنفي، قال الشافعي عنه: "الناس في الفقه عيال على أبي
حنيفة، كان تاجر قماش بالكوفة... تشدد في قبول الحديث، وتوسع في
القياس والاستحسان، وأصول مذهبه: الكتاب، والسنة، والإجماع،
والقياس، والاستحسان".
ثانيًا: الإمام مالك بن أنس
(93-179)، هو الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي
(نسبة إلى ذي أصبح: قبيلة من اليمن)،
إمام دار الهجرة فقهًا وحديثًا بعد التابعين، ولد ومات في المدينة،
ولم يرحل منها، وعاصر - كأبي حنيفة - الدولتين الأموية
والعباسية.... كان إمامًا في الحديث وفي الفقه، وكتابه "الموطأ"
كتاب جليل في الحديث والفقه، قال عنه الشافعي رحمه الله: "مالك
أستاذي، وعنه أخذت العلم، وهو الحُجة بيني وبين الله تعالى، وما
أحدٌ أَمَنَّ عليَّ من مالك، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم
الثاقب"، بنى مذهبه على أدلة شرعية... وأهم ما اشتهر به: العمل
بالسنة، وعمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وقول الصحابي إذا صح
سنده، والاستحسان.
ثالثًا: الإمام الشافعي
(150-204)، هو الإمام أبو عبدالله محمد بن إدريس القرشي الهاشمي
المُطَّلِبي بن العباس بن عثمان بن شافع، يلتقي نسبه مع الرسول صلى
الله عليه وسلم في جده عبدمناف، ولد في غزة بفلسطين سنة 150 هـ،
وهو عام وفاة أبي حنيفة، وتوفي بمصر سنة 204هـ... حفظ القرآن في
صباه، (وحفظ أشعار هذيل، وكانت أفصح
العرب)، ونبغ في العربية والأدب، وارتحل إلى اليمن، فولي
عملاً فيها، ثم ارتحل إلى بغداد، وألَّف فيها
(كتاب الحجة؛ مذهبه القديم)،
ثم ارتحل إلى مصر، حيث أنشأ مذهبه الجديد، وتوفي بها، ومن مؤلفاته:
"الرسالة"، أول مدون في علم
أصول الفقه، وكتاب الأم في فقه مذهبه الجديد، قال فيه أحمد: "كان
أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله"، وأصول مذهبه: القرآن،
والسنة، ثم الإجماع، ثم القياس، ومن أقواله: "من
استحسن، فقد شرَّع"، وقال: "إذا
صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عُرْض الحائط".
رابعًا: الإمام أحمد بن حنبل
(164-241)، هو الإمام أبو عبدالله أحمد بن حنبل الشيباني، ولد
ببغداد، ونشأ بها، وتوفي فيها، وكانت له رحلات إلى مدائن العلم؛
كالكوفة، والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام، والجزيرة، قال
عنه الشافعي حين ارتحل إلى مصر: "خرجت
من بغداد وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل"، وأصول
مذهبه في الاجتهاد قريبة من مبدأ الشافعي؛ لأنه تفقه عليه، فهو
يأخذ بالقرآن، والسنة، وفتوى الصحابي، والإجماع، والقياس،
والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والذرائع، وله كتاب "المسند" في
الحديث، حوى نيفًا وأربعين ألف حديث، وكان ذا حافظة قوية جدًّا،
ويعمل بالحديث المرسل، وبالضعيف الذي يرتفع إلى درجة الحديث الحسن،
مرجِّحًا العمل بالمرسل والضعيف على القياس.
سبب اختلافهم في كثير من الأمور:
لعدة أسباب ذكرها
العلماء، أجمَلَها الإمام ابن تيمية[6]:
"وبعد؛ فيجب على المسلمين - بعد موالاة الله ورسوله - موالاة
المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصًا العلماء، الذين هم ورثة
الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يُهتدى بهم في ظلمات
البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمَّة
قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شرارها، إلا المسلمين،
فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات
من سنته، بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا،
وليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا
يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته؛ دقيقٍ
ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول،
وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولكن إذا وُجد لواحد منهم قولٌ قد جاء حديث صحيح
بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي
صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة
تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك
الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة
تتفرع إلى أسباب متعددة..."، (ثم عدد الإمام ابن تيمية الأسباب،
وأوصلها إلى عشرة، وذلك في صفحات عدة[7]،
وهذه الأسباب التي أشار إليها الإمام ابن تيمية ثم فصلها:
السبب الأول: ألا يكون
الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالمًا
بموجبه.
السبب الثاني: أن يكون
الحديث قد بلغه، لكنه لم يثبت عنده.
السبب الثالث: اعتقاد ضعف
الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره.
السبب الرابع: اشتراطه في
خبر الواحد العدل الحافظ شروطًا يخالفه فيها غيره.
السبب الخامس: أن يكون
الحديث قد بلغه وثبت عنده، لكن نسيه.
السبب السادس: عدم معرفته
بدلالة الحديث.
السبب السابع: اعتقاده أن لا
دلالة في الحديث، والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن الأول لم يعرف
جهة الدلالة، والثاني عرَف جهةَ الدلالة لكن اعتقد أنها ليست دلالة
صحيحة.
السبب الثامن: اعتقاده أن
تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مُرادة؛ مثل: معارضة
العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو
الحقيقة بما يدل على المجاز، إلى أنواع المعارضات، وهو باب واسع
أيضًا؛ فإن تعارض دلالات الأقوال، وترجيح بعضها على بعض: بحر
خِضَمٌّ.
السبب التاسع: اعتقاده أن
الحديث مُعارَض بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله، إن كان
قابلاً للتأويل، بما يصلح أن يكون معارضًا بالاتفاق؛ مثل: آية، أو
حديث آخر، أو مثل إجماع.
السبب العاشر: معارضته بما
يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله، مما لا يعتقده غيره أو جنسه
معارضًا، أو لا يكون في الحقيقة معارضًا راجحًا... (ثم قال[8]):
"فهذه الأسباب العشرة ظاهرة، وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون
للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطَّلع نحن عليها؛ فإن مدارك
العلم واسعة، ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالِم
قد يُبدي حجته، وقد لا يبديها، وإذا أبداها فقد تبلغنا وقد لا
تبلغنا، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه، سواء
كانت الحجة صوابًا في نفس الأمر أم لا.
لكن نحن وإن جوزنا
هذا، فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجتُه بحديث صحيح وافقه
طائفة من أهل العلم، إلى قولٍ آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما
يدفع به هذه الحجة وإن كان أعلم؛ إذ تطرُّق الخطأ إلى آراء العلماء
أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله
على جميع عباده، بخلاف رأي العالم"، (ثم قال[9]):
"وإذا كان الترك يكون لبعض هذه الأسباب، فإذا جاء حديث صحيح فيه
تحليل، أو تحريم، أو حكم، فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من
العلماء - الذين وصفنا أسبابَ تركهم - يعاقب؛ لكونه حلل الحرام، أو
حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله".
وقد ذكر الإمام النووي[10]
فصلاً بعنوان: في النهي الأكيد، والوعيد الشديد، لمن يؤذي أو يتنقص
الفقهاء والمتفقهين، والحث على إكرامهم، وتعظيم حرماتهم، (ثم قال):
قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾
[الحج: 32]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
﴾ [الحج: 30]، وقال تعالى: ﴿
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88]، وقال
تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب:
58]، وثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل قال: ((من آذى لي وليًّا،
فقد آذنته بالحرب))، وروى الخطيب البغدادي، عن الشافعي، وأبي
حنيفة، رضي الله عنهما، قالا: "إن لم تكن الفقهاء أولياء لله، فليس
لله ولي"، وفي كلام الشافعي: "الفقهاء: العاملون"، وعن ابن عباس
رضي الله عنهما: "من آذى فقيهًا آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله عز وجل"، وفي
الصحيح (مسلم) عنه صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الصبح فهو في ذمة
الله، فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته))، وقال الإمام الحافظ ابن
عساكر رحمه الله: اعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا
ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله
في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء
بالثلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب ﴿
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
واختلاف هؤلاء الأئمة
- كما سبق - رحمة واسعة لهذه الأمَّة، واتفاقهم حجة قاطعة[11]،
وهذا الاختلاف - والحمد لله - اختلاف تنوع (كل واحد من الطرفين
مصيب)، وليس من اختلاف التضاد، بيَّن ذلك الإمام ابن تيمية[12].
أما معنى كلمة: "أجمع
العلماء" (الإجماع)؛ فيقول الإمام ابن تيمية[13]:
"معنى الإجماع: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا
ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام، لم يكن لأحد أن يخرج عن
إجماعهم؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة"، ويقول الإمام محمد أبو
زهرة[14]:
الإجماع هو اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور
بعد النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي في أمر من الأمور
العملية، وقد أجمع علماء المسلمين على اعتبار الإجماع حجة، وإن
كانوا قد اختلفوا فيمن هم العلماء المجتهدون الذين يتكوَّن منهم
الإجماع، والجمهور يعتبرون إجماع علماء الجمهور"، ثم بَحَثَ ما
يتعلق بأمر الإجماع[15]
بحثًا مفصلاً، وجاء في الموسوعة[16]:
"هو اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكم
شرعي، استنادًا إلى الكتاب، أو السنة، أو القياس، وإذا نُقل
الإجماع من طريق قطعي، كان قطعي الثبوت، وإلا كان ظنيه، وهو قطعي
في دلالته على ما أجمع عليه"[17].
وأول من صنف في
الإجماع الإمام ابن المنذر، كما قال ذلك الشيخ عبدالله بن زيد آل
محمود[18]،
ثم ألف الإمام ابن حزم كتابه مراتب الإجماع (في
العبادات والمعاملات والاعتقادات)، وعلى هذا الكتاب -
المراتب - نقد من الإمام ابن تيمية، ثم تشنيف الأسماع بمسائل
الإجماع (في الفروع) للإمام السيوطي، ثم هناك بعض الكتب المعاصرة
الخاصة بالإجماع.
• وأما قول: "وهل هم هؤلاء
الأئمة أم لا؟"، فقد مر الكلام في تعريف الإمام أبي زهرة للإجماع،
وقد أجاب الإمام ابن تيمية عن ذلك بقوله[19]:
"وأما أقوال بعض الأئمة؛ كالفقهاء الأربعة، وغيرهم، فليس حجة
لازمة، ولا إجماعًا، باتفاق المسلمين".
(تنبيه): لا يوجد تعارض بين
قول الإمام ابن قدامة قبل ثلاث صفحات "اتفاقهم حجة قاطعة"، وبين
قول الإمام ابن تيمية: "فليس حجة لازمة"؛ وذلك لأمور، منها:
(1) أن الإمام ابن قدامة لم
يقل هذه العبارة لاتفاق ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أو عشرة، وإنما
قال ذلك عن العلماء الفقهاء بغير عدد.
(2) أن الإمام ابن قدامة لم
يقل: إجماع أو إلزام لأحد، أو لازمة على الناس، بل قال: قاطعة.
(3) أن كلام الإمام ابن
تيمية واضح - أي في اتفاق الأئمة الأربعة -: "وقول القائل: لا
أتقيد بأحد هؤلاء الأئمة الأربعة، إن أراد به أنه لا يتقيد بواحد
بعينه دون الباقين، فقد أحسن، بل هو الصواب من القولين، وإن أراد
أني لا أتقيد بها كلها، بل أخالفها، فهو مخطئ في الغالب قطعًا؛ إذ
الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة، ولكن تنازع الناس:
هل يخرج عنها في بعض المسائل؟ على قولين، وقد بسطنا ذلك في موضع
آخر"[20].
(4) أنه هو نفسه نقل ذلك
وذكره لخلاف الأئمة، بقوله[21]:
"ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة
واسعة، وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا أجمعوا على قولٍ فخالَفَهم
رجل، كان ضالاًّ، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا،
كان في الأمر سَعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن
يحمل الناس على مذهبه؛ ولهذا قال العلماء المُصنِّفون في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه
المسائل الاجتهادية لا تُنكَر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس
باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة
أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه".
والحمد لله رب
العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه
والتابعين، كلما ذكره الذاكرون، أو غفل عن ذكره الغافلون.
[1] أخرجه الشيخان.
[2] في مقدمة كتابه "الفقه الإسلامي وأدلته"، ص28-29
بتصرف يسير، وانظر: إعلام الموقعين، الإمام ابن القيم، أول
المجلد الأول.
[3] بضم النون وفتحها، والضم أفصح.
[4] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي؛ للتعرف على
ترجمة هؤلاء الأئمة:
6 ص390 إلى
ص403 الإمام أبو حنيفة.
8 ص48 إلى
ص135 الإمام مالك.
10 ص5 إلى
ص99 الإمام الشافعي.
11 ص177 إلى
ص358 الإمام أحمد بن حنبل.
(وفي أول
الترجمة في الحاشية إحالة على مراجع أخرى لترجمة هؤلاء
الأئمة).
[5] أبو حنيفة. مالك. الشافعي. أحمد بن حنبل
حياته وعصره
وآراؤه وفقهه.
كتب أربعة
لمؤلف واحد، هو العلامة الشيخ محمد أبو زهرة، وهذه الكتب -
أي تأليف الإمام أبي زهرة - أفضل ما يقرأ عن هؤلاء الأئمة
الأربعة.
كما يمكن
الاستماع لمادة علمية سمعية عن الأئمة الأربعة رحمهم الله
تعالى للشيخ الدكتور: عبدالرحيم الطحان من (مقدمة الفقه).
[6] في مقدمة رسالته رفع الملام عن الأئمة الأعلام،
كما في مجموع الفتاوى، ج21ص231-233.
[7] من ص231 - ص290.
[8] في21 ص250.
[9] في 21 ص251.
[10] في مقدمة المجموع، ج1 ص24.
[11] كما قال الإمام ابن قدامة في مقدمة المغني1 ص4،
تحقيق د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي، د. عبدالفتاح محمد
الحلو: "اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة"،
والإمام ابن تيميَّة في مجموع الفتاوى، ج30 ص80، وقال
الشيخ أبو عبدالله محمد عبدالرحمن الدمشقي العثماني
الشافعي في كتابه "رحمة الأمة، في اختلاف الأئمة" ص4: "والخلاف
بين الأئمة الأعلام رحمة لهذه الأمة، التي ما جعل الله
عليها في الدين من حرج، بل اللطف والإكرام"، وقال الأستاذ
الدكتور. وهبة الزحيلي في مقدمة الفقه الإسلامي وأدلته1
ص68: "فإن اختلاف المذاهب الإسلامية رحمة ويسر بالأمة،
واختلاف في مجرد الفروع والاجتهادات العملية الفقهية".
[12] في اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق د. ناصر العقل،
1 ص149، وقد ذكر الأستاذ الدكتور. وهبة الزحيلي في مقدمة
كتابه "الفقه الإسلامي وأدلته"1، ص67-72 عدة أسباب لاختلاف
العلماء فلتنظر، ولأهمية الخلاف وأثره ألف العلماء مؤلفات
عدة في اختلافات الأئمة زادت على الثلاثين، كما في مقدمة
كتاب "اختلاف العلماء" للإمام أبي عبدالله محمد بن نصر
المروزي، ص8، 9، تحقيق وليد السامرائي، وألف د. مصطفي سعيد
الخن كتابًا بعنوان: "أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في
اختلاف الفقهاء"، وانظر الفقه الإسلامي وأدلته، 1 ص69
تعليق رقم (3).
[13] كما في مجموع الفتاوى 20 ص10.
[14] في كتابه "أصول الفقه"، ص185.
[15] من ص184 إلى ص198.
[16] جمال عبدالناصر في الفقه الإسلامي، 1 ص18: "الإجماع
الفقهي".
[17] وللاستزادة يمكن الرجوع إلى الكلام عن الإجماع
بالتفصيل، من أي كتاب أصول فقه قديمًا أو حديثًا، على
كثرتها، وكذلك هناك فوائد عن الإجماع في فهارس مجموع فتاوى
ابن تيمية 37 ص10، 11.
[18] في مقدمة كتاب الإجماع للإمام ابن المنذر في نفس
مقدمة المحقق د. فؤاد عبدالمنعم أحمد.
[19] في مجموع الفتاوى 20ص10.
[20] مختصر، وينظر: مختصر الفتاوى المصرية ص61، شيخ
الإسلام أحمد بن تيميه، لبدر الدين البعلي ص396.
[21] كما في مجموع الفتاوى، ج30 ص80.
|
0 التعليقات: