الشيخ
د. إبراهيم بن محمد الحقيل
﴿الحَمْدُ
للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجًا﴾ [الكهف: 1] نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله
وإحسانه، فالخير بيده، والشر ليس إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له؛ أنزل القرآن في رمضان، ﴿هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ﴾ [البقرة:
185] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يتهجد في ليله بالقرآن، ويطيل
القيام، وقرأ في ركعة واحدة ثلاثا من الطوال، البقرة والنساء وآل عمران،
صلى الله وسلم وبارك على آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واغتنموا ما
بقي من رمضان؛ فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وما بقي منه خير مما مضى؛ إذ
فيما بقي ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، فالتمسوها في العشر، وأحيوا
الليل بالقيام والقرآن والذكر ﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ *
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدُخان: 2-4].
أيها الناس:
شهر رمضان هو شهر القرآن بنص القرآن.. وفيه تعج المساجد بآياته تتلى،
وفيه يعود إلى تلاوته من يهجره طوال العام.. وفيه يمكث الناس في
المساجد أدبار الصلوات يترنمون به.. وفيه يحرص كثير من الناس على
الإكثار من ختماته.. ويتنافس الكبار والصغار والرجال والنساء في ذلك..
هذا؛ وللقرآن أوصاف
مبثوثة فيه، تدل على فضله وعظمته ونفعه للناس لو أخذوا بما فيه، ومن
أوصافه أنه شفاء، وقد تكرر هذا الوصف في مواضع ثلاثة من كتاب الله
تعالى؛ فالموضع الأول قوله تبارك وتعالى ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ
لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:
57].
والموضع الثاني قوله
سبحانه ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ
مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82] وفي هذه الآية قال قتادة والحسن
عليهما رحمة الله تعالى: مَا جَالَسَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ
مِنْ عِنْدِهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ.
والموضع الثالث قوله
عز وجل ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا
هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ
وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصِّلت: 44].
ولم يُحصر في الآيات
الثلاث الشفاءُ في مجال معين، بل جاء نكرة في سياق الإثبات ليعم جميع
أنواع الشفاء، وفي كل المجالات، إلا أنه في إحدى الآيات ذُكر أنه شفاء
لما في الصدور، والمقصود به أنه شفاء للقلوب، وأعصى الأمراض وأشدها
فتكا هي أمراض القلوب؛ ذلك أن القلوب هي مستودع العلوم والأفكار
والأخلاق، وهي نوعان: قلوب عامرة بالإيمان مليئة بأنوار العلم والهدى،
وهي القلوب الحية، وقلوب خالية من الإيمان خاوية من معارف الوحي فهي
قلوب ميتة.. وموتها له سببان: الجهل والاستكبار، فأما الجهل فإنه يحول
بين القلوب وبين الإيمان والنور، فإذا أزيل جهلها ربت بالإيمان،
واستنارت بالقرآن، وهذا حال أغلب الكفار، قال الله تعالى فيهم ﴿بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
[الأنبياء: 24].
وأما القلوب
المستكبرة، فهي تعلم الحق ولا تريده ﴿وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء:
61] وفي آية أخرى ﴿وَرَأَيْتَهُمْ
يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [المنافقون: 5].
وفي المشركين من أهل
الاستكبار قال الله تعالى ﴿إِنَّهُمْ
كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾
[الصَّفات: 35] وفي آية أخرى ﴿بَلْ
أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾
[المؤمنون: 71]
ولأجل أن الجهل هو
أعظم مرض يحول بين القلوب وبين الإيمان، وهو ما يقع فيه أكثر الناس؛ إذ
الاستكبار فيهم أقل من الجهل؛ فإن كلمة المفسرين تواردت في تفسير هذه
الآيات على أن القرآن شفاء من الجهل..
فهو شفاء من الجهل
بالله تعالى وبآياته وصفاته.. وشفاء من الجهل بالنبوات، وشفاء من الجهل
بالمبدأ والمعاد؛ فإن هذه الحقائق الكبرى وإن دلت عليها العقول والفطر
فلا سبيل لترسيخها لتصير يقينا لا تزعزعه الشكوك إلا بالوحي، وأيضا لا
طريق للعلم بتفاصيلها إلا بالوحي.. فالقرآن مزيل للجهل بالحقائق الكبرى،
فكان أعظم شفاء للقلوب من الشك والارتياب والجحود والإنكار..
نقل السمعاني عن أهل
العلم قولهم: لَا دَاء أعظم من الْجَهْل، وَلَا دَوَاء أعز من دَوَاء
الْجَهْل، وَلَا طَبِيب أقل من طَبِيب الْجَهْل، وَلَا شِفَاء أبعد من
شِفَاء الْجَهْل.اهـ
وكم شفى الله تعالى
بالقرآن من جاهل فعلمه، ومن شاك فأزال شكه وأبدله به يقينا، ومن مسرف
على نفسه بالعصيان حركته آيات الترهيب والنار فقادته للتوبة، ومن
متشائم يائس قنوط فتح له القرآن أبواب الفأل والأمل، ومن متكلف في طلب
البراهين على حقائق الوجود وجد في القرآن بغيته بأجمل عرض، وأقوى حجة،
وأبلغ بيان..
وكم شفى الله تعالى
بالقرآن قلوبا خوارة جبانة قرأت سير الأنبياء وشجاعتهم، وفضائل الجهاد
والتضحية فشفيت من خوفها، وغدت أعجوبة في الفداء والإقدام!
وكم من نفوس قابضة
شحيحة ممسكة شفيت بالقرآن لما قرأت ما في الجود والإنفاق من عظيم
الجزاء فشفاها القرآن من شح نفسها، وبسط أيديها بالندى بعد قبضها..
وكم من متخوض في
الحرام، موغل في الربا؛ قرأ في القرآن أن الربا حرب لله ورسوله فتاب
منه.
وكم من متيم بمن لا
تحل له، يواصلها في الخفاء؛ قرأ في القرآن عفة يوسف عليه السلام فتحركت
العفة في قلبه، وشفي من علته، واكتفى بما أحل الله تعالى له..
وكم من عاق لوالديه
حركته آيات حقوق الوالدين فشفي من عقوقه، وكم قاطع رحم قرأ في القرآن
الوعيد على القطيعة فعاد على رحمه بالصلة..
وكم من ظالم لأهله
وولده، بعيد عنهم؛ قربه القرآن منهم، وحببه فيهم..
وكم من غضوب ركبه
الشيطان ذهب بالقرآن غضبه، وازدان بالحلم والهدوء؛ لأن الغضب من
الشيطان، والشيطان يفر من القرآن.
وكم من حامل هم،
معالج كرب وغم، لا يغمض له جفن، قد ملَّ الدنيا والعيش فيها؛ سري عنه
بالقرآن فكُشف به همه وغمه.
وأمراض شتى من
الشبهات والشهوات شفي أصحابها بالقرآن فلنستشف لأمراض قلوبنا بالقرآن..
ومن أنواع هجر
القرآن هجر الِاسْتِشْفَاء بِهِ فِي جَمِيع أمراض الْقلب وأدوائه فيطلب
شِفَاء دائه من غَيره، فيكون دَاخلا فِي هذه الآية ﴿وَقَالَ
الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآَنَ
مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30].
والرقية بالقرآن
فيها أعظم الشفاء من العين والسحر ومس الجان، ومن سائر علل الأبدان؛
لأن الإخبار بأن القرآن شفاء جاء بصيغة العموم؛ ليشمل جميع العلل
الحسية والمعنوية، والأسقام القلبية والبدنية. وقد قرأ بعض الصحابة على
ملدوغ سورة الفاتحة فقام كأن لم يكن به بأس.. وقال طَلْحَةُ بْنُ
مُصَرِّفٍ رحمه الله تعالى: كَانَ يُقَالُ: ((أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا
قُرِئَ عِنْدَهُ الْقُرْآنُ وَجَدَ لَهُ خِفَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى
خَيْثَمَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَرَاكَ الْيَوْمَ
صَالِحًا، قَالَ: إِنَّهُ قُرِئَ عِنْدِي الْقُرْآنُ)) رواه البيهقي.
نسأل الله تعالى أن
يشفي قلوبنا بالقرآن، وأن يزيدنا به إيمانا، وأن يجعلنا من المستبشرين
به، إنه سميع مجيب.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا
كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه
وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا
بالطاعات ما بقي من شهركم الكريم، وأحيوا بالقيام ثلثه الأخير؛ فإنه
أفضل أجزائه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف فيها التماسا
لليلة القدر التي أمر بالتماسها في العشر الأخيرة، وأرشد من عجز عن
العشر كلها أن يحافظ على السبع البواقي، وأرجاها الأوتار منها، وكان
صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها، وكان إذا
دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، كما أخبرت بذلك عائشة
رضي الله عنها.
أيها المسلمون:
لا شفاء للقلوب أعظم أثرا من شفاء القرآن، ولا مواعظ أبلغ من مواعظه،
ولا تذكير أقوى من تذكيره، ومن اكتفى بغير القرآن ضل، ومن لم يوعظ
بالقرآن فلا واعظ له، قال أبو نصر الرملي رحمه الله تعالى: ((أتينا
الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى بمكّة، فسألناه أن يملي علينا فقال: ضيّعتم
كتاب الله وطلبتم كلام فضيل وابن عيينة؟! ولو تفرّغتم لكتاب الله تعالى
لوجدتم فيه شفاء لما تريدون)).
والمؤمن إذا قرأ
القرآن زاد إيمانه بتلاوته ﴿وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾
[الأنفال: 2] وإذا حفظ منها شيئا فأتقنه استبشر وفرح، وتأثر بما فيه من
الموعظة، وعمل بما أفاده من العلم، كحال الصحابة رضي الله عنهم حينما
كان القرآن يتنزل ﴿وَإِذَا مَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ
هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: 124] وذكر جندب بن عبد الله
رضي الله عنه أنهم تعلموا القرآن فازدادوا به إيمانا.
وأما المنافقون فعلى
العكس من ذلك ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا
وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 125] هذا هو إخبار الله تعالى
عنهم: أن آيات القرآن تزيدهم رجسا إلى رجسهم، وفي آية أخرى ﴿وَلَا
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82] وفي
ثالثة ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾
[فصِّلت: 44] وكل هذه الأوصاف تتناول المنافقين، فسماعهم للقرآن أو
موعظتهم به لا تزيدهم إلا رجسا إلى رجسهم، وخسارة إلى خسارتهم، وهو
عليهم عمى؛ وسبب ذلك أن شِفَاءَ الْقُرْآنِ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا
الْأَرْوَاحَ الطَّيِّبَةَ وَالْقُلُوبَ الْحَيَّةَ.
ثم إذا نظرنا إلى
واقعنا، وحال المنافقين في عصرنا ازددنا إيمانا إلى إيماننا بوصف
القرآن لهم، وتشخيصه لأمراض قلوبهم، وازديادها رجسا بسماعهم للقرآن أو
وعظهم به.. وقد رأينا أمراضهم تزداد مع القرآن، ولا سيما في شهر
القرآن، لأن المؤمنين يكثرون من تلاوة القرآن، ويقومون به.
إن من زيادة رجس
المنافقين في شهر القرآن أنهم يعارضون الله تعالى في أحكامه، ويحادون
كتابه، ويسخرون من آياته، ويستهزئون بعباده؛ فأباحوا الاختلاط والزنا
والربا، وسخروا من الحجاب والعفاف في مسلسلات خصوا بها شهر القرآن؛ لأن
القرآن يزيدهم رجسا إلى رجسهم، وليس الخوف على أحكام الله تعالى أن
تبدل، ولا على القرآن أن يغير لأن ذلك محفوظ، وإنما الخوف على قوم
يصومون النهار، ويكابدون الحر والعطش والنصب، حتى إذا جن الليل أفطروا
على مسلسلات المنافقين، وهي تسخر بآيات الله تعالى، وترد أحكامه، وتحل
ما حرمه على عباده، والمشاهد لها يضحك؛ لما فيها من تقمص أحوال البله
والمجانين، واستظراف حركات السفلة المنحطين، لكنهم يغفلون عن أن الراضي
كالفاعل، وأنهم شركاء في الإثم؛ لأن الله تعالى نهى نهيا شديدا عن
القعود في مثل هذه المجالس وإلا صار القاعد كالساخر بدين الله تعالى ﴿وَقَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ
يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ
اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾
[النساء: 140]
فقلوب لا تغضب لله
تعالى، ولا تنكر أفعال المنافقين في شهر القران فهي قلوب مريضة، فليفتش
أصحابها عما بها من أدواء النفاق لعلاجها قبل أن يطمس عليها فترتد على
أدبارها، حمانا الله تعالى من النفاق والمنافقين، وردهم على أعقابهم
خاسرين.. اللهم آمين.
0 التعليقات: