الإمام مالك بن أنس
الإمام مالك بن أنس
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام
على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا
إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا,
وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً,
وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا
برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار
المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما هو عنوان هذا الدرس ؟
أيها الأخوة الكرام، آخر الأئمة الفقهاء
الأعلام، الإمام الحافظ, شيخ الإسلام, أبو عبد الله, مالك بن أنس بن
مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة،
وهم حلفاء عثمان بن عبيد الله التيمي, أخو طلحة بن عبيد الله, أحد
العشرة المشهود لهم بالجنة .
أيها الأخوة، ذكرت في الدرس الماضي: أن العبرة لا بالأشخاص، ولكن بالقواعد التي يمكن أن نستنبطها من حياة هؤلاء العظماء، لأن في حياة كل عظيم مبادئ، في حياة كل عظيم قيم، فنحن إذا وضعنا أيدينا على المبادئ التي اعتنقوها، والقيم التي حكمت أفعالهم, تعلَّمنا منهم الشيء الكثير .
ما قاله الشافعي عن الإمام مالك :
الإمام أبو عبد الله الشافعي, يقول:
((إذا جاء الأثر فمالكٌ النجم))
بالمناسبة: هذا يقودنا إلى قول العلماء: بأن
أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم معصومة بمجموعها, بمعنى أنها متكاملة،
فكل إمام نبغ في شيء, فالأولى أن نعترف له فيما نبغ به، إمام آخر نبغ
في شيء آخر، إذا انطلق المسلمون في علاقاتهم من أئمتهم, ومع دعاتهم،
ومع علمائهم، إلى أن كل واحد منهم وفقه الله في باب من أبواب العلم،
وتفوق فيه, وهو على علم بالأبواب الأخرى، فهنا التفوق، وأن هؤلاء
العلماء متكاملون، يكمل بعضهم بعضا، وهم أُسرة واحدة، لكُنّا في خير
كثير، ولكنّا في غنى عن كل هذه الخصومات، والتقييمات الساذجة التي تجري
بين الدعاة .
الخطأ الكبير: أن تعتقد أن واحداً, يعلم كل شيء، فهذا شيء مستحيل، بل إنّ المقولة الصحيحة هي أنّ الإنسان الذي يعلم كل شيء لا يعلم شيئًا، الاختصاص أساسي في حياة الإنسان . الكلمة: إذا جاء الأثر، يعني طرحت النصوص، أحاديث صحيحة, فمالكٌ النجم، الأول مثلاً: إذا جاء الاستنباط, فالإمام أبو حنيفة الأول، إذا جاء تاريخ الصحابة مثلاً: فالشافعي الأول, فكل إمام تفوق في شيء, وكان في الحد المعتدل في الأشياء الأخرى .
لولا مالك لذهب علم الحجاز :
قالوا:
((لولا مالك لذهب علم الحجاز))
علم الحجاز يعني علم الأثر، هؤلاء الذين
نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين حفظوا الدين، لذلك
علماء الحديث لهم فضل كبير، لأن الله عز وجل تولى حفظ القرآن الكريم،
ومِن متممات حفظ القرآن الكريم حفظ سنة النبوية، وهؤلاء العلماء
الأعلام الذين حفظوا السنة لهم فضل على هذه الأمة .
أئمة الناس في زمانهم, من هم ؟
وقال بعضهم:
((أئمة الناس في زمانهم أربعة؛ الثوري بالكوفة،
ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بالبصرة))
أي أن الله عز وجل رب العباد جميعاً، يحب كل
عباده، لذلك الدعاة, والعلماء، والمصلحون، والقضاة، والمفتون،
والمجتهدون، هؤلاء المجددون للدين، وزَّعهم ربنا جل جلاله توزيعاً
جغرافياً، واللهُ عز وجل أجلُّ وأكرمُ مِن أن يخص بلدةً واحدة بكل
العلم، وأن يحرم الباقين من العلم، يوجد توزيع دقيق جداً .
لذلك استمعوا إلى مقولة أحد العلماء: لا يستطيع إنسان مهما علا شأنه أن يحتكر الدين، لا إنسان, ولا جماعة، ولا طائفة، ولا مذهب، ولا قطر، ولا مصر، ولا إقليم، ولا حقبة ، ولا فئة، ولا أمة، الدين كالهواء للناس، لا يمكن أن يحتكر، الله عز وجل يجعل في كل بلد، وفي كل إقليم، وفي كل حي علمًا وعلماء . وأنا أقول لكم في كل بلد إسلامي, علماء مخلصون, عاملون، يؤدون واجباتهم التي أوكلها الله إليهم، فمن السذاجة أن تقول: الدين في هذا المكان، وليس في أي مكان آخر، لكنْ قد يشتد الإقبال على الدين في بلد، ويقلّ في بلد آخر، أمّا أن ينعدم, فهذا مستحيل، لأن الله سبحانه وتعالى يقيم الحجة على خلقه دائماً، كيف تقام الحجة على خلقه؟ بأنْ يكون في كل مكان علماء عاملون . الشيخ محيي الدين له كلمة مكتوبة إلى جانب قبره:
لكل عصر واحد يسمو به
وأنا
لهذا العصر ذاك الأوحد
نحن لا علاقة لنا بهذه الشطحة، ولكن لكل عصرٍ مسلم يسمو به الله، جعل لكل عصر من ينهض بهذا الدين، من يجدد هذا الدين، من يعيد إلى الدين صفاءه، من يعيد إلى الدين نقاءه ، من يضع يده على جوهر الدين، من يبث به الروح التي فقدت مع تأخر الأيام، هذه النقطة الثانية، أنا أذكر الأقوال, وأنطلق منها, إلى قواعد عامة .
الشافعي يعترف بالفضل لمالك عليه :
وقال ابن أبي عمر العدني سمعت الشافعي, يقول:
((مالك معلمي، وعنه أخذت العلم))
فإذا اعترفتَ بالفضل لأولي الفضل, فهل تقلُّ
مكانتك؟ أبداً، إذا اعترفت أنك استفدت من هذا العالم, وأنك أخذت العلم
عنه, فهل هذا يدعو إلى أن تجرح مكانتك بين الناس؟ كلا .
كان صلى الله عليه وسلم يجلس إلى جانبه سيدنا علي كرم الله وجهه، فلما دخل أبو بكر, قام له, فتبسم النبي, وسرَّ سروراً عظيماً، فعن أنس رضي اللّه عنه:
((إِنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لأَهْلِ الْفَضْلِ
أَهْلُ الْفَضْلِ))
.
فجزءٌ من علمك أن تعرف أخبار الآخرين، جزء من دينك أن تنصف الناس، جزء من عدالتك, ألاَّ تجحد فضل أحد .
انظر إلى أدب مالك مع حديث رسول الله عليه الصلاة
والسلام :
الآن استمعوا إلى هذا الأدب الرفيع، قال
تعالى:
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
كان مالكُ بن أنس, إذا أراد أن يخرج
ليحدثُ الناس, توضأ وضوءَه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوةً،
ومشط لحيته، فقيل له في ذلك, فقال:
((أوقِّر به حديث رسول الله))
أكاد أقول لكم: بقدر معرفتكم بالله، وتعظيمكم
له, تعظمون شعائره، هل تصدقون: أن الإنسان إذا ألقى المصحف على الطاولة
إلقاءً, يريد بهذا أن يهينه, فقد كفر؟ هذا كفرٌ عملي، هناك كفر قولي،
وهناك كفر سلوكي، فيكفي أن تضع المصحف على الطاولة بعنف, أنْ يكون
كفرًا عمليًا .
مثلاً: أكثر الناس يقول لك: في السوق أدفع بالتي هي أحسن، ويكون له دينٌ على رجل، فهذا لا يجوز، لا يجوز أن تستخدم آية من القرآن الكريم لغير ما أنزلت له، كذلك لك صديق اسمه يحيى، فتقول: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، هذا استخفاف بالقرآن الكريم، لا تستخدم آية لشأن من شؤون حياتك، فلذلك كلما ازداد الأدب في الإنسان, عبر عن عِظَمِ إيمانه بالله عز وجل . هناك صحابي جليل يقول:
((والله منذ صافحت يدي هذه يدَ رسول الله, ما مست
عورتي طول حياتي))
هذه اليد التي صافحت يدَ رسول الله, أبقاها
طاهرةً نقيةً من كل شيء يشينها .
للإمام مالك وصفٌ آخرُ:
((كان مالك بن أنس: إذا أراد أن يجلس للحديث؛
اغتسل، وتبخر ، وتطيَّب، فإن رفع أحد صوته في مجلسه؛ زجره))
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾
أين توقير النبي؟ هذا حديثه، كان يفهم من
هذه الآية: أن الإنسان إذا جلس في مجلس حديث رسول الله, لا ينبغي أن
يرفع صوته, لأنك في حياة النبي, لا ينبغي أن ترفع صوتك أمامه، وبعد
حياة النبي, لا ينبغي أن ترفع صوتك في مجلس يتلى فيه حديثه، أرأيتم إلى
هذا الأدب؟ هذا أدب آخر .
مالك من أولئك العلماء الذين يعلمون بعلم الرجال :
قالوا:
((ما كان أشد انتقاد مالك للرجال، وما أشد علمه
بشأنهم))
لأن هذا الحديث أساسه السند، فإذا كان
الإنسان كذابًا، مزورًا، مدلسًا، مشكوكًا في أخلاقه, تكلموا فيه جرحًا
وتعديلاً .
وبالمناسبة: علماء الحديث يقيِّمون الناس وفق مبدأين؛ العدل والضبط، العدل صفة نفسية، والضبط صفة عقلية، قد يكون الإنسان شديد العدالة، لكنه ضعيف الضبط، قد يكون شديد الضبط, ضعيف العدالة، وكلكم يعلم أن العدالة تسقط وتجرح .
((مَن عامل الناس فلم يظلمهم، وحدَّثهم فلم يكذبهم، وعدهم
فلم يخلفهم، فهو ممّن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوَّته، وحرمت
غيبته))
معنى هذا أن الظلم يسقطها ، والكذب يسقطها،
وإخلاف الوعد يسقطها .
لديك كأس بللور، أتيت بمطرقة، وحطمتها، فهذا معناه سقوط العدالة، وأحياناً هذه الكأس تُشعَر، وتبقى كأساً، إلا أنه سقطت قيمتها، العدالة إما أن تسقط, أو أن تجرح، تجرح بأشياء كثيرة تعرفونها جميعاً، وذكرتها لكم كثيراً, ولقد ذكرها المحدِّثون والفقهاء، تجرح بأكل لقمة من حرام، تجرح بتطفيف بتمرة، تجرح بحديث عن النساء، بتنزه في الطرقات، بصحبة الأراذل، تجرح في المشي حافياً، في البول في الطريق، تجرح بارتفاع الصوت في البيت، تجرح بإطلاق البرذون، أو إطلاق العنان للفرس، هذه كلها تجرح العدالة . لذلك: كان الإمام مالك مِن أعلم العلماء بالرجال، والحقيقة: هذا علم تنفرد به الأمة الإسلامية، فلا توجد أمة عندها علم الجرح والتعديل إلا الأمة الإسلامية، وكذلك علم الرجال كالأمة الإسلامية، لدرجة أن الذي يكذب على فرسه, لا يمكن أن يأخذ المحدِّثون عنه حديث رسول الله، أوهَمَهَا أن في ثوبه شعيراً كي تأتي إليه، فلما وصل إليه طالب العلم لم يجد الشعير، فتركه وعاد إلى المدينة، عاد إلى المدينة من البصرة، قضى فيها أشهرًا في طريقه إلى البصرة, ليتلقى حديثاً عن رجل، فإذا بهذا الرجل, يكذب على فرسه، فتركه وعاد إلى بلده.
سؤال وجه إلى مالك :
سُئل مالك عن رجل:
((أتعرف فلانًا؟ فقال مالك: أرأَيتَه في كتبي؟ قلت:
لا، قال: لو كان ثقةً, لرأيته في كتبي))
شيء رائع جداً أنه ما ذكر في كتبه إلا رجالاً
ثقاة .
وقال علي:
((لا أعلم مالك ترك إنساناً, إلا إنساناً في حديثه
شيء، يعني صفة غير لائقة))
نحن في الحقيقة مدينون بالفضل إلى علماء
الحديث، لدرجةٍ تفوق حد الخيال، لأنهم الذين حفظوا الدين لنا، لأن
القرآن الكريم أحكام كلية، بيَّنها النبي عليه الصلاة والسلام،
وفصّلها، وقيد مطلقها، خصص عامها، حدد مفاهيمها، فإذا ضاع الحديث, ضاع
الدين، والله عز وجل يقول:
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
قال:
((كل من روى عنه مالك بن أنس فهو ثقة))
وله كتاب شهير اسمه: موطأ الإمام مالك ، كلكم
يعرف ذلك .
من فتاوى مالك :
قال:
((سأل أحدهم: مَن في المدينة اليوم يفتي؟ قال: ما
ثم مثل فتىً من ذي أصبح, يقال له: مالك بن أنس))
حتى درجتْ تلك المقولة الشهيرة:
((لا يُفتَى ومالك في المدينة))
.
يقال: إن من أدق فتاويه:
((أن مغسلةً كانت تغسل امرأةً، -واللهُ أعلم بصحة
هذه القصة، لكن لها معنى دقيق- يد هذه المغسلة التصقت بجسد الميت، ولا
سبيل إلى نزعها، جرت محاولات يائسة، ويد المغسلة وجسم الميتة شيء واحد،
اقترحوا قطع لحم الميتة، أو اقترحوا قطع جزء من يد المغسلة، ثم سألوا
الإمام مالك, فقال: هذه المغسلة اغتابت هذه الميتة، واتهمتها بالزنا،
فقال: اضربوها ثمانين جلدة، ومع الضربة الثمانين, فَكَّتْ يدها عن
جسدها))
قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
هذا من فتاوى الإمام مالك، لأن قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة، فقبل أن تتهم امرأة بالزنا, عدَّ إلى المليار، إلا أن ترى بعينك كل شيء، وليس سمعت, وقيل، لا تجد إنسانًا ليس له خصوم، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
قضية أعراض المسلمين لها عند الله شأن
كبير، قال تعالى:
﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
عَظِيمٌ﴾
فلذلك صوناً لأعراض الناس، ومنعاً للقيل
والقال، ومنعاً للإنسان أن يخوض فيما لا يعينيه الشرع، قرَّرَ الشرعُ
أنّ من قَذَفَ محصنةً, جُلِد ثمانين جلدة .
وأغرب من ذلك: لو أن ثلاثة رجال رأوا بأعينهم حادثة الزنا، ولم يأتوا برابع, جُلِدَ الثلاثة، فالشرع دقيق، وأعراض المسلمين ليست مباحة، ولا يجوز أن تلوكها الألسن، الإنسان قبل أن يقول: جارتنا، زوجة فلان، ويعمل الصدرَ من قميصه هكذا، فاحفظوا هذه المقولة:
((قذفُ محصنةٍ يهدم عمل مائة سنة))
إذا لم يدون العلم يضيع :
قدم علينا الزهري، فأتيناه ومعنا ربيعة،
فحدثنا نيفاً وأربعين حديثاً، ثم أتيناه الغد، فقال:
((انظروا كتاباً حتى أحدثكم منه، أرأيتم ما حدثتكم
به أمس, أي شيء في أيديكم منه؟ فقال له ربيعة: قيِّدوا العلمَ
بالكتابة))
.
هذه نقطة دقيقة جداً: حينما تقرأ على أخوانك من كتاب، ومعهم الكتاب نفسه, فهذا مدعاة إلى حفظ الدرس، لذلك قيدوا العلم بالكتابة، كل ما ليس في القرطاس ضاع، القاعدة الذهبية: اكتبْ أجمل ما قرأت، واحفظْ أجمل ما كتبت، فلا تجد إنسانًا يريد أن يتحدث للناس بالحق, إلا ويحتاج إلى كتابة، وتذكرة، أوراق بين يديه، دفتر صغير . الإنسان أحيانا يسمع حديثًا شريفًا رائعًا، يعجب به آنياً، يطلبه بعد ساعة, ولا يكون قد حفظه، يقول لك: هذا الدرس جميل جدا،ً ولكنني لا أتذكر منه شيئًا، هل مِن المعقول أن تسمع طول عمرك؟ إلى متى؟ ألا ينبغي أن تلقي؟ أنت الآن محسوب على المسلمين، طالب علم، لك شيخ، تتعلم، أين أنت في الجامع؟ من أين أتيت؟ مِن الجامع، ألا يجب أن تحفظ شيئًا من الجامع, إذا جلست مع أهلك في دعوة، أو نزهة، أو حفلة، أو عقد قران, فحدِّثهم مما حفظتَ. وفي النهاية الذاكرة مهمة جداً، إذا سمع الإنسان شيئًا، وكتبه في دفتر صغير، سمع حكمة، سمع مقولة، سمع حديثًا أو آية فكتبها، فلْيراجعها، درس الجمعة درس تفسير، ومعكم مصاحف، فإذا رجع الإنسان إلى البيت، وراجع الآيات، حول هذه الآية قيل: كذا وكذا، وحول هذه قيل: كذا وكذا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً))
العقل الذي كان يحويه مالك حتى قيل عنه أعقل الناس :
قالوا:
((قدم وكيع علينا، فجعل يقول: حدثني الثبت، فظننا
أنه اسم رجل، فقلنا: من هذا الثبت أصلحك الله؟ قال: مالك بن أنس))
الثبت: أي الدقيق في حفظه، الدقيق في روايته،
عدل في أخلاقه، ثبت في حفظه .
قال ابن المهدي:
((ما رأيت أحداً أعقل من مالك))
ما قيل عن مالك :
وهناك بعض الأقوال عن الإمام مالك, هي في
الحقيقة منامات، وأنا ليس من عادتي أن أجعل من عماد الدرس الكرامات،
ولا المنامات، مع أني أعتقد بها، الكرامة أعتقد بها, وأصدقها، ولا
أرويها, إلا إن كان فيها نص صحيح، ولكن مثلاً, قال:
كنت عند مالك بن أنس, فأتاه ابن أبي كثير, قارئ أهل المدينة، فناوله رقعةً، فنظر فيها مالك، ثم جعلها تحت مصلاه، فلما قام من عنده ذهبتُ، فقال:
((اجلسْ يا خلف، وناولني الرقعة، فإذا فيها: رأيت
الليلة في منامي, كأنه يقال لي: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
المسجد، فأتيت المسجد, فإذا ناحية القبر قد انفرجت، وإذا رسول الله
جالس، والناس حوله يقولون له: يا رسول الله مُرْ لنا، فيقول له: إني قد
كنزت تحت المنبر كنزاً، وقد أمرت مالكاً أن يقسمه فيكم، فاذهبوا إلى
مالك، فانصرف الناس, وبعضهم يقول إلى بعض: ما ترون مالكاً فاعلاً؟ قال
بعضهم: ينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع مالك بكى))
.
الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح, أو تُرى له, بشارة من الله، فإذا صلح حالُ الإنسان مع الله كثيراً، وأخ كريم رأى له رؤيا، وهي بشارة من رسول الله، أو من صحابي جليل، أو من عالم جليل، أو رآه في حالة جيدة، ونقلها له، فهذه بشارة، فكأن هذا المنام بشارة لسيدنا مالك, أن له مقام رفيع عند رسول الله، ونسأل الله أنْ يجعلنا من هؤلاء الذين يستحقون أن يُبَشَّروا، ولكن واللهِ لو أن إنسانًا أكرمه الله بأن يرى رسول الله في المنام، فلعله يبقى أشهرًا تلو الأشهر، وهو منغمس في سعادة لا توصف، لأن سيد الخلق, قمة البشر في حبه, وفي أحواله, وفي إقباله، وفي سعادته .
أمر ليس بمستغرب عن الإمام مالك :
قال أحد العلماء:
((سمعت مالكاً سُئِل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال
في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري))
الإمام مالك, إمام دار الهجرة، العالم الفذ،
الراوي، المحدث، المجتهد ، قال: لا أدري .
فوطِّنوا أنفسكم أن نصف العلم لا أدري، ومن قال: لا أدري, فقد أفتى، فلا تخجل، قل: لا أدري، وأنت عالم، أما إذا تكلمت بكلام على عواهنه, فهذا هو الجهل بعينه، والعياذ بالله، فإما أن تفتي بعلم، وإما أن تفتي بجهل، وأما الثالثة فإجرام، بأن تفتي بخلاف ما تعلم، تعلم حكمًا شرعيًّا، ولكن لمصلحة دنيوية, تفتي بخلاف ما تعلم . إنْ أفتيتَ بعلم نجوت، وإنْ أفتيتَ بجهل سقطت، وإنْ أفتيتَ بخلاف ما تعلم, فقد أجرمت. وفي قول آخر:
((قدمت على مالك بأربعين مسألة، فسألته عنها، فما
أجابني منها, إلا بخمس مسائل))
رؤيا رآها الإمام مالك :
يروى أن الإمام مالكًا, رأى في النوم ملك
الموت، وهذا موضوع الاختصاص، فقال:
((يا ملك الموت، كم بقي لي من عمري؟ ففعل هكذا،
وأشار بأصابعه الخمسة، فلما استيقظ ازداد قلقاً، يا ترى خمس سنوات، أم
خمسة شهور، أم خمسة أسابيع، أم خمسة أيام، أم خمس ساعات .
فذهب الإمام مالك إلى إنسان -مختص في تفسير الأحلام- هو ابن سيرين، وقال له: فسر لي هذه الرؤيا، قال: يا إمام، يقول لك ملك الموت: إن هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله، -وهذا من الاختصاص في الدين-، فزال اضطرابه))
مالك حجة الله في خلقه :
قال بعض العلماء:
((مالكٌ من حجج الله على خلقه))
قال الله عز وجل:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ
عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ﴾
ليس في الإسلام مؤمن صادق إلاّ ومعه حجة
قوية، وإلا أصبح الدينُ لا معنى له، صالح فقط، آدمي يخاف من الله، وإذا
ناقشته يرتدع، هذا عابد، وليس عالمًا، ولكنَّ عالمًا واحدًا أشد على
الشيطان من ألف عابد .
ما قاله ابن الفرات عن الإمام مالك :
قال ابن الفرات:
((إذا أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك))
هذا الكلام شرعي, هناك دليل قرآني على
شرعيته، إذا أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك، قال تعالى:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
إذا أردت الله والدار الآخرة, فابحث عن رجل
تثق بعلمه, وإخلاصه، وورعه، واستقامته، فألزمه، وخذ عنه، واسأله،
واجعله قدوةً لك .
الوجه الذي كان يتمتع به الإمام مالك, والنظافة التي
كانت تسمو عليه :
وقال أبو عاصم:
((ما رأيت محدثاً أحسن وجهاً من مالك))
الله عز وجل لحكمةً أرادها, جعل وجه المخلص
متألقًا، وجعل وجه العاصي ترهقه غبرة، أولئك هم الكفرة الفجرة .
إذا كان الإنسان مرتكبًا معصية, فآثار معصيته تبدو على وجهه . يروى أنه دخل رجل على سيدنا عثمان, فقال:
((أيدخل علينا رجل, وأثر الزنا في عينيه! فقالوا:
أوحي بعد رسول الله؟! قال: لا، ولكنها فراسة صادقة))
ترى العاصي على وجهه قتامة، وجهه جامد، وفيه فتور، والطائع وجهه متألق، جرِّب، واقرأ القرآن الكريم بإخلاص، صلِّ الصلاة بإتقان، تهجد، ابتهل, وانظر في المرآة, ترى جمالاً وتألقاً, لم تعهده من قبل، وقالوا: الوجه صفحة النفس . النبي صلى الله عليه وسلم كان وجهه كالقمر ليلة البدر . وقال:
((ما رأيت بياضاً ولا حمرةً أحسن من وجه مالك، ولا
أشد بياضًا ببياض ثوب منه))
وجه متألق، وثوب نظيف، من الذي قال لك: أنّ
الإنسان كلما كان مهمِلاً لمظهره, فهو وليٌّ لله؟ هذه مقولة شيطانية،
كان عليه الصلاة والسلام يُعرَف بريح المسك، كان يقول:
((فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ, وَأَصْلِحُوا
لِبَاسَكُمْ, حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ,
فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ))
أنت تمثل الدين، أخواننا الذين خدموا
الخدمة الإلزامية، في النظام العسكري يعرفون أنّ ضابطًا برتبة ملازمٍ
فما فوق, لا يُسَمح له أن يركب دراجة ونحوها، ممكن للمسلم أن يكون له
زيٌّ إسلامي، مظنة صلاح .
أنا مرة أحد أقربائي توفي، فذهبت إلى متابعة المعاملة، لحق بسيارتي خمسة وعشرون شخصًا، كلهم قراء القرآن الكريم، يتزاحمون ليقرؤوا في المساء, أيْ يقرؤون القرآن في بيت الميت, فهل هذا يليق بهؤلاء؟ الذي يحفظ كتاب الله, لا ينبغي أن يكون هكذا . ترى شخصًا بأي سلك محترمًا، إذا كان موظفًا مثلاً في شركة محترمة, فيُمنَع أن يلبس قميصًا مزركشًا، وإذا كان للمرءِ علاقات رسمية, يجب أن تكون ثيابه كاملة، هذه قواعد ، فماذا بمن يعمل في الحقل الديني؟ لديه إهمال، أيضا ًالمظهر اللائق في الحياة الاجتماعية له اعتبار .
الأسئلة التي سئل بها الإمام مالك :
سئل مالك عن الزهد, فقال:
((طيب الكسب، وقصر الأمل))
هذا هو الزهد عند مالك .
الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله, قال:
((سألت مالكاً عما يترخص به أهل المدينة من الغناء
، فقال الإمام مالك: إنما يفعله عندنا الفساق))
هذا رأي الإمام مالك في الغناء .
وقال الإمام مالك:
((إن الرجل إذا أخذ يمدح نفسه ذهب بهاؤه))
وجاء رجل إلى الإمام مالك, فقال:
((يا أبا عبد الله, الرحمن على العرش استوى، كيف
استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد في شيء كوجده من مقالتي -انزعج- أطرق
بعض الوقت، و جعلوا ينتظرون ما يأمر به فيه، قالوا: ثم سري عنه, فقال:
الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه
بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً))
وهذا رأي أهل السنة والجماعة في عدة آيات
قليلةٍ جداً تتعلق بذات الله، إما أن نوكل تأويلها إلى الله، وإما أن
نؤولها وفق كمال الله، أما أن نعطلها أو نجسدها, فقد وقعنا في الضلالة
.
وقال القاضي عياض:
((يا أبا عبد الله، يخاطب الإمام مالك: وجوه يومئذٍ
ناضرة, إلى ربها ناظرة، أينظرون إلى الله؟ قال: نعم، قالوا: بأعينهم
هاتين؟ قلت: فإن قومًا يقولون: إنها ناظرةً بمعنى أن منتظرةٌ الثواب،
قال: بل تنظر إلى الله، أما سمعت قول موسى:
﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾
أتراه سأل محالاً؟ لكن الله تعالى قال:
(لن تراني) أي في الدنيا، لأنها دار فناء، فإذا ساروا إلى دار البقاء,
نظروا بما يبقى إلى ما يبقى، وقال تعالى:
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَمَحْجُوبُونَ﴾
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ﴾
وفاته :
وقال محمد بن سعد:
((اشتكى مالك أيامًا يسيرة، فسألت بعض أهلنا عما
قال عند الموت ، فقالوا: تشهَّد، ثم قال: لله الأمر من قبل, ومن بعد))
وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول, سنة
تسع وسبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد، وصلى عليه عبد الله بن محمد
بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو يومئذٍ والٍ على
المدينة، ودفن بالبقيع، وكان ابن خمس وثمانين سنة .
رؤيا وردت عن أحدهم عن الإمام مالك :
قال أسد بن موسى:
((رأيت مالك بن أنس بعد موته, وعليه ثياب خضر, وهو
على ناقة تطير بين السماء والأرض, فقلت: يا أبا عبد الله, أليس
قدَّمت؟! قال: بلى، قلت: إلامَ صرت؟ قال: قدمت على ربي، وكلمني كفاحاً,
وقال: سلني أعطكَ، وتمنَّ عليَّ أُرضِك))
الخاتمة :
أخواننا الكرام، كل شيء يمضي، لا يبقى إلا
العمل الصالح، فهنيئاً لمَن عرف الله، ولمن أطاعه، ولمن أفنى عمره في
طاعته، ولمن قدم الغالي والرخيص, والنفس والنفيس في سبيل الله، واللهُ
عز وجل يكافئ على الحسنة أضعافاً مضاعفة .
والحمد لله رب العالمين
|
0 التعليقات: