أوصاف القرآن الكريم (7)
﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾
الشيخ
د. إبراهيم بن محمد الحقيل
الحمد لله الكبير
المتعال؛ هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، وفرض علينا الصيام، وجعله في
شهر القرآن، نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك
عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما
بعد:
فاتقوا الله تعالى
وأطيعوه، واجتهدوا فيما بقي من أيام رمضان ولياليه؛ فقد مضى أكثره وبقي
أقله، وفيما بقي أفضله، حيث عشره، وقد خصت بليلة القدر، وهي خير من ألف
شهر ليس فيها ليلة القدر، فاجتهدوا في التماسها، وأروا الله تعالى من
أنفسكم خيرا؛ طاعة له، وتأسيا بنبيه محمد عليه الصلاة والسلام فإنه كان
"إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ،
وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ".
أيها الناس:
هذه الليالي الفاضلة
هي ليالي القرآن، يتلى في نهارها، ويسمع في قيامها؛ لأن رمضان
شهر القرآن، فيه أنزل وفيه يسمع في التراويح، وكان جبريل عليه
السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، فالأمة تتأسى
بالملك الكريم جبريل عليه السلام، وبالنبي الأمين محمد صلى الله عليه
وسلم، ويا له من تأس عجيب بأفضل ملك وأفضل نبي؛ فالحمد لله الذي هدانا
للقرآن، وما كنا لنهتدي له وبه لولا أن هدانا الله تعالى، ونسأله تعالى
أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته إنه سميع مجيب.
وللقرآن
أوصاف كثيرة جدا، وإنما تكثر أوصاف الشيء إذا كثرت منافعه، وليس
للبشرية شيء أنفع لها من القرآن، ولكن أكثر البشر ﴿
لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ
مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 24].
ومن
أوصاف القرآن: أنه فرقان، وفي بعض الأحاديث سماه النبي عليه الصلاة
والسلام الفرقان العظيم، ﴿ تَبَارَكَ
الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].
وإنما وصف بأنه
فرقان لأنه تنزل مفرقا، ولم ينزل دفعة واحدة كما نزلت التوراة
والإنجيل. وفي هذا يقول الله تعالى ﴿
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106] فعلل سبحانه كونه
قرآنا ليقرأه النبي صلى الله عليه وسلم على الناس، وإذا تلقوه عنه
قرأوه هم، ومنذ أن تنزل وهو يقرأ بحمد الله تعالى، وتتيسر قراءته على
الأعاجم والأميين، كما يتيسر حفظه على الكبار والصغار والرجال والنساء،
ولا يحصى عدد حفاظه في الأرض من كثرتهم وتفرقهم في الأمصار، وهذا من
أسباب حفظه وبقائه لاهتداء الأمة به ﴿
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ
﴾ [القمر: 17].
وعلل سبحانه تفريقه
في النزول بأن يقرأه الناس على مكث، فتكون ألفاظه ومعانيه أثبت في
القلوب مما لو أنزل عليهم مرة واحدة؛ ولذا فإن محفظيه يفرقونه لطلابهم؛
لصعوبة حفظه دفعة واحدة.
ومن فوائد نزول
القرآن مفرقا تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقصص السابقين،
وتصبيره بأخبار الصابرين، وتسليته بآيات النصر المبين ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ
بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32].
ومن فوائده كذلك:
الرد على شبهات اليهود والمشركين، ودحضها في مهدها، وتعرية أصحابها،
وهذا كثير في القرآن ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾
[الفرقان: 33] والمعنى: لا يأتونك بشبهة أو بسؤال عجيب من أسئلتهم إلا
أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه، وبما هو أحسن معنى ومؤدى منه.
ومن فوائد تفريقه:
التدرج في الأوامر والنواهي؛ لئلا تثقل على الناس، وهذا من رحمة الله
تعالى بعباده، وتحبيبهم في الإيمان.
وسمي القرآن فرقانا؛
لأنه يفرق بين الحق والباطل، ومن هذا المعنى قول الله تعالى ﴿
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]
وقال المقداد بن
الأسود رضي الله عنه: "وَاللَّهِ لَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا
نَبِيٌّ قَطُّ، فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ
دِينًا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ
فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ" رواه أحمد.
فهو فرقان لا يقف
الباطل أمامه، ولا يَهزم أهلُ الباطل أتباعَه، بل هو غالب في كل حال،
ومن ركن إليه ركن إلى شديد، ومن احتج به خصم كل جبار عنيد.
فأهل القرآن هم أهل
القوة ولو كانوا أضعف الناس، وهم أملك للحجة ولو كانوا أعيا الناس، وهم
أهل الحق ولو ضل عنه كل الناس، ولا بد أن يظهر الحق على الباطل ﴿
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى
الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء:
18].
والقران فرقان بمعنى
النصر؛ لأن الله تعالى نصر بالقرآن أهل الإيمان على أهل الشرك
والأوثان، بما فيه من الآيات الباهرة، والبينات الواضحة، والحجج
الداحضة التي دحضت حججهم، وكشفت سفه عقولهم، وبينت بطلان مذهبهم. ومن
هذا المعنى أطلق على غزوة بدر الفرقان، قال الله تعالى ﴿
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ
الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ [الأنفال: 41]
سميت فرقانا لأنها أول معركة في هذه الأمة فرقت بين الحق والباطل، وما
أنزله تعالى يوم بدر على عبده ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام آيات
قرآنية ثبتت المؤمنين، وملائكة تقاتل معهم، ونعاسا يؤمنهم وينشطهم،
وغيثا يطهرهم ويذهب رجز الشيطان عنهم، ويثبت أقدامهم، فكان الفرقان يوم
الفرقان.
والنبي صلى الله
عليه وسلم فرقان بين الناس؛ لأنه فرق بين المؤمن والكافر؛ ولذا قال
الملائكة فيه: "وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْقٌ
بَيْنَ النَّاسِ" وفي لفظ "فرَّق بين الناس" رواه البخاري، ومعناه: أنه
فَارق بَين الْمُؤمن وَالْكَافِر، فَمن آمن بِهِ فَهُوَ مُؤمن، وَمن
كفر بِهِ فَهُوَ كَافِر.
وقال النبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَيَفْرَقُ مِنْكَ يَا عُمَرُ" فأُطلق عليه الفاروق.
والقرآن يقضي على
الشبه والشكوك التي تجتاح الإنسان في الخالق سبحانه وفي الخلق وفي
المبدأ والمعاد، وفي كل مجال يتسلط فيه الشيطان على الإنسان، ويجعل
لصاحبه نورا يميز به بين الحق والباطل، وبين السنة والبدعة، وبين
المحكم والمتشابه، إذا صدق في تعامله مع القرآن، وأعطاه حقه من القراءة
والفهم والتدبر والانقياد والاستسلام والعمل، ومن هذا المعنى قول الله
تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال:
29] فإذا كان هذا الفرقان الموعود مشروطا بتحقيق التقوى فإن القرآن
أكبر داعية للتقوى، وآياته الداعية للتقوى قد نيفت على أربعين ومئتي
آية، أفلا يتقي قارئ القرآن فينال الفرقان المرتب على تحقيق التقوى؟!
وبفرقان القرآن بين
الحق والباطل لا ظلمات يقع فيها أهل القرآن، ولا شكوك تعتريهم فتصرعهم،
ولا شبهات ترد على قلوبهم فتلبس عليهم دينهم؛ لأن ملازمتهم للقرآن
تزهقها في مهدها، فلا يبقى في القلب إلا أثر القرآن، وهو الحق الخالص
من عند الله تعالى.
أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا
* وَأَنَّ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
﴾ [الإسراء: 9-10].
بارك الله لي ولكم
في القرآن...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا
طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم
وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما
بعد:
فاتقوا الله تعالى
وأطيعوه، وخذوا من القرآن حظكم؛ فإنه كلام ربكم، ودستور دينكم، ونماء
إيمانكم، وصلاح قلوبكم، واستقامة أحوالكم ﴿
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
﴾ [الأنفال: 2].
إيها المسلمون:
إن القرآن لما كان
فرقانا بين الحق والباطل أعيا أهل الباطل أن ينشروا باطلهم منذ تنزله
إلى يومنا هذا؛ فكفار مكة كانوا مقرين بهزيمتهم أمام القرآن، وأن ما
فيه من الحق يدحض باطلهم، فلم يكن لهم معه حيلة إلا صرف الناس عنه
بالقوة، والتشويش عليه لئلا يسمعه الناس ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26].
وحاول بعض المحرفين
الإدخال في القرآن أو الانقاص منه فعجزوا، ومن غرائب الانحراف أن بعضهم
أراد اختصار القرآن أو اختصار بعض سوره فأتوا بما يزري بعقولهم.
وطبعوه محرفا ووزعوه
في أوساط المسلمين، وكرروا ذلك، فلم ينطل تحريفهم على المسلمين، وعلم
جمهورهم أن هذا ليس قرآنهم الذي عرفوه.
وقبل عقد وزيادة قام
بعض النصارى بتأليف قرآن خلطوا فيه جملا قرآنية بجمل من التوراة
والإنجيل المحرفين، وطبعوه على هيئة مصحف المسلمين، وبأسماء سور وآيات
كما في القرآن، وسموه (فرقان الحق) ووزعوه بين المسلمين زاعمين أنه
قرآن القرن الحادي والعشرين، فمات في مهده، ولم يعرف أكثر الناس خبره،
رغم ما بذلوه فيه من جهد كبير، وما خسروه على طباعته من مال كثير،
فمن سمع منكم
بفرقانهم الذي اخترعوه، ومن عرفه من المسلمين؟!
لقد غاظهم في القرآن
تمسك المسلمين به؛ فكل أهل الديانات المحرفة والمخترعة زهدوا في كتبهم،
ولم يزهد المسلمون في قرآنهم. بل يقبلون عليه قراءة وحفظا وتعلما
وتعليما.
وقبل غير المسلمين
الطعن في كتبهم، وانتقادها وتكذيبها، ولم يقبل عصاة المسلمين ذلك في
قرآنهم، فضلا عن الطائعين منهم، فينتفضون في وجه كل ناقد للقرآن، مشكك
فيه.
وانبرى قبل سنوات
بعض أساطين العلمانية لمحاولة التشكيك في جمع القرآن وتمامه، وعدم
زيادته ونقصانه، وافتعلوا ضجيجا في ذلك للفت الانتباه لهم، فما حفل بهم
عامة المسلمين، وانبرت لهم أقلام أهل القرآن تدحض باطلهم، وتكشف عورات
أفكارهم.
فلما أعيتهم حيل صرف
الناس عن القرآن، ومحاولات التشكيك فيه عمدوا إلى تأويله على غير وجهه،
وتحريفه عن معناه، ومحاولة إفراغه من محتواه، فأول من أنكر عليهم فعلهم
قراء القرآن من عوام المسلمين؛ لأن القرآن من الوضوح والبيان بما لا
يسمح لمتلاعب أن يتلاعب به أو يحرف معانيه؛ ولذا كان فرقانا بين الحق
والباطل.
إن حيلتهم مع القرآن
ضاقت عليهم حتى حشرتهم في أضيق الزوايا، فلا عجب إن مزقوه وأحرقوه
ودنسوه بالنجاسات ليغيظوا المسلمين، فما في قلوبهم من الغيظ على القرآن
وأهله قد فاض من قلوبهم فأظهر أفعالهم الرديئة التي تثبت هزيمتهم في
مواجهة القرآن وأهله.
ولا عجب أن يتمالأ
الكفار والمنافقون والمنحرفون على محاولة تزهيد المسلمين في القرآن،
والدعوة إلى إفراغ المناهج التعليمية والتربوية منه، وإلغاء حلقات
تحفيظه وتعليمه، وسيبقى لأعداء الله تعالى ما يغيظهم، فالقرآن فرقان قد
فرق بين حقنا وباطلهم، وسيتعلمه أولاد المسلمين في البلاد الغنية على
المقاعد الأنيقة وعبر الشاشات الجميلة، كما سيتعلمه أولاد المسلمين في
البلاد الفقيرة في الأكواخ وتحت الأشجار، ويقرؤونه من الألواح، ولن
يتركوه مهما ساءت أحوالهم.
وأيام المد الشيوعي
أراد الشيوعيون الملاحدة تصفية الإسلام فهدموا المساجد، وأحرقوا
المصاحف، وأعدموا العلماء والأئمة وأهل القرآن، ونشروا جواسيسهم في
البلاد التي سيطروا عليها؛ ليبحثوا عن آية قرآنية لطمسها، وعن أي قارئ
لقطع حلقومه، وأنشؤوا جيلا من أولاد المسلمين علموه الإلحاد في المدارس
والنوادي والشوارع، وحالوا بينه وبين القرآن زهاء سبعين سنة،
ثم ماذا؟
كان المحفظون للقرآن
يحفّظونه أولادهم في الأقبية والمغارات والفلوات وفي هجعة الليل،
وبالهمس خوفا من آذان الشيوعيين، فما إن سقطت الشيوعية إلا وظهر أهل
القرآن قد تناقلوه وحفظوه جيلا بعد جيل، وأنتصر أهل الفرقان على
الشيوعية.
فتمسكوا بالقرآن
فإنه الفرقان بين الحق والباطل، فأهله هم أهل الحق، وأعداؤه من الكفار
والمنافقين هم أهل الباطل.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
|
0 التعليقات: