بسم الله الرحمن
الرحيم
قال
الله تعالى في القرآن الكريم:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
[سورة
الفاتحة]
عبادة الله تجمع طاعتة ومحبته:
أيها الإخوة الكرام، لأن علة وجود الإنسان في الحياة
الدنيا أن يعبد الله فالله عز وجل يقول:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ)
[سورة الذاريات]
ولأن عبادة الله هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية،
أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
” العبادة ” تجمع أصلين: غاية الحب مع غاية الخضوع فمن
أحب الله ولم يخضع له لم يكن عابداً له.
تعصي الإله وأنت تظهر حبه***ذاك لعمري في المقال شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعـته***إن المحب لمن يحب يطيع
ومن
خضع له بلا محبة، لم يكن عابداً له، لا تكون عابداً له
إلا إذا خضعت له وأحببته كلاهما شرط لازم غير كافٍ
ينبغي أن تخضع له في كل شؤون حياتك وفق المنهج القويم
الذي جاء به النبي الكريم وينبغي أن تحبه وأن تؤثره
على كل شيء.
أيها الإخوة الكرام، ليس الإيمان أن تقر أن لهذا الكون
خالقاً عظيماً، الله عز وجل أثبت لمشركي مكة هذا
الإيمان وهذا لا يعفيهم من المحاسبة و لا يعفيهم من أن
يبرؤوا من الشرك.
قال تعالى:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)
[سورة الزخرف]
ما
العلاقة بين إيمانهم وبين حركتهم في الحياة ؟ حركتهم
في الحياة لا علاقة لها بإيمانهم، ليست منضبطةً بمنهج
الله.
قال تعالى:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)
[سورة الزمر]
وآية ثالثة، قال تعالى:
(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ)
[سورة المؤمنون]
أيها الإخوة الكرام، أن تعتقد أن الله خلق السماوات
والأرض هذا الإيمان لا ينجي، ولا يرقى بصاحبه، ولا
يعفيه من الشرك، العبرة أن تؤمن أن الله في السماء
إلهٌ وفي الأرض إله، بيده كل شيء وإليه يرجع كل شيء
قال تعالى:
(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ)
[سورة هود]
(يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)
[سورة الفتح]
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ
مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا
إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
[سورة هود]
(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ)
[سورة الأعراف]
(مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ
فِي حُكْمِهِ أَحَداً)
[سورة الكهف]
الاستعانة بالله تجمع الثقة به والاعتماد عليه:
أيها الإخوة الكرام، العبادة تجمع أصلين غاية الحب مع
غاية الخضوع،
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
[سورة الفاتحة]
كلمتان بين الرب وبين العبد، وأما “الاستعانة” تجمع
أصلين الثقة بالله والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق
بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره ـ مع ثقته
به ـ لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه ـ مع عدم ثقته به
ـ ولا يثق به لأنه مضطر إليه، فقد تعتمد ولا تثق، وقد
تثق ولا تعتمد، ولكن أصل الاستعانة بالله أن تثق به
ثقةً مطلقة، وأن تعتمد عليه اعتماداً مطلقاً، فالعبادة
تجمع أصلين، والاستعانة تجمع أصلين، العبادة تجمع بين
الحب والخضوع والاستعانة تجمع بين الثقة والاعتماد.
قال تعالى:
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)
[سورة إبراهيم]
قول
شعيب، قال تعالى:
(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
[سورة هود]
قوله تعالى:
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ)
[سورة هود]
إما
الاستعانة بالله أو الشقاء:
إن
الشقاء الذي يعانيه الإنسان الشارد عن الله عز وجل هو
شقاء البعد عن الاستعانة بالله، الحياة قاسية والإنسان
ضعيف والقوى الذي حوله مخيفة فلا بد له من أن تنهار
نفسه وأن يختل توازنه، أما إذا توكل على الله فهو
حسبه، الله عز وجل يحكي عن المؤمنين فقال تعالى حكاية
عن المؤمنين:
(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
[سورة الممتحنة]
قوله تعالى:
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلاً)
[سورة المزمل]
قوله تعالى:
(قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ)
[سورة الرعد]
فهذه ستة آيات بالقرآن الكريم تبين أصل الاستعانة
بالله، أن تثق به ثقةً مطلقة لأن بيده كل شيء، جسمك،
أعضاؤك، حواسك أجهزتك النبيلة، أهلك، أولادك، من حولك،
من فوقك، من تحتك كل القوى التي حولك هي بيده ولا
يستطيع مخلوق كائن من كان أن يصل إليك بنفع أو ضر إلا
إذا شاء الله.
قال تعالى:
(فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ)
[سورة هود]
هذا
هو التوحيد الذي يملأ القلب أمناً، ويملأ القلب
سكينةً، ويملأ القلب ثقةً بالله عز وجل، وثقةً
بالمستقبل.
قال تعالى:
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
[سورة التوبة]
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ
كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ
يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)
[سورة آل عمران]
إن
المسلم اليوم في أمس الحاجة إلى أن ترتفع معنوياته
لأنه إذا كان على منهج الله سائراً فالله معه، وإذا
كان الله معه فمن عليه، يا ربي ماذا فقد من وجدك،
وماذا وجد من فقدك ؟
العبادة غاية والاستعانه وسيلة:
تقديمُ ” العبادة ” على ” الاستعانة ”
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
[سورة الفاتحة]
في
فاتحة الكتاب من باب تقديم الغايات على الوسائل،
الغاية أن تعبده والوسيلة أن تستعين فيه، غاية العباد
التي خلقوا لها أن يعبدون والاستعانة وسيلة له،
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ)
هذه
متعلقةٌ بألوهية الله عز وجل
(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
هذه
متعلقةٌ بربوبيته.
أيها الإخوة الكرام، لأن الاستعانة جزء من العبادة دون
أن نقبل العكس، ولأن الاستعانة طلب منه والعبادة طلب
له، لأن العبادة لا تكون إلا من مخلص والاستعانة تكون
من مخلص ومن غير مخلص، أي إنسان إذا ألمت به المخاطر
دعا الله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام، لأن العبادة شكر على نعم الله
والله يحب أن يشكر والإعانة فعل الله وتوفيقه، فإذا
التزمت عبوديته، ودخلت تحت مظلتها أعانك عليها، فكان
التزامها، والدخول تحتها سبباً لنيل الإعانة.
ما
أمرنا أن نستعين به إلا ليعيننا:
أيها الإخوة الكرام، والله الذي لا إله إلا هو لو
وضعنا أيدينا على حقيقة هاتين الآيتين ما أمرنا أن
نستعين به إلا ليعيننا، فكل نقص تشعر به نقص باستعانتك
لأن الله تولى أن يعينك فإن كنت في نقص إيماني، نقص
تعبد، نقص في الأعمال الصالحة فهذا لا لضعف قدراتك، بل
لضعف استعانتك، لأن الله عز وجل في فاتحة الكتاب يقول:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
أيها الإخوة الكرام، العبودية التي هي أرقى مرتبةٍ يصل
إليها الإنسان النبي عليه الصلاة والسلام وهو في سدرة
المنتهى، في أعلى مرتبةٍ وصلها مخلوق، فأوحى إلى عبده
ما أوحى، وكلما ازددت عبوديةً لله رفع الله ذكرك وأعلى
مقامك، ويسر أمرك، وأحاطك بعناية لا حدود لها.
العبودية أيها الإخوة محفوفة بإعانتين: إعانة قبلَها
على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية
أخرى، فكل عبادة لله تكون بتوفيق الله أولاً وتنقلك
إلى عبادة أرقى منها.
الإنسان حركة الخطوة نحو طاعة الله تقودك إلى خطوات،
والعياذ بالله والخطوة نحو المعصية تقودك إلى خطوات،
الإنسان حركة فإذا سلك طريقاً يبتغي به وجه الله أعانه
الله على ما طلب ويسر له عبادة أرقى فمن حال إلى حال
ومن مرتبة إلى مرتبة ومن منزلة إلى منزلة.
عبادة الله وحده والاستعانه بالله وحده:
أيها الإخوة الكرام، العبادة غاية الإنسان من وجوده في
الدنيا لذلك هناك نقطة دقيقة في الآية، ما قال الله عز
وجل نعبد إياك قال: ” إياك نعبد ” وما قال: نستعين بك
قال: ” إياك نستعين “، وهناك لفتة في البلاغة مؤداها
أن تقديم إياك على نعبد تفيد القصر والحصر، يعني لو
قلنا: نعبد الله، لا ينفي هذا الكلام أن نعبد غيره،
أما إذا قلنا إياك نعبد أي لا نعبد إلا الله، فلا يعبد
في الأرض إلا الله ولا يعبد الله إلا وفق ما شرع الله
هذا معنى إياك نعبد، ولا نستعين بغير الله، لا نستعين
بغير الله، أما لو قلنا: نستعين بالله، لا تنفي أن
نستعين بغير الله
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
وفي
آية مشابهة تأمل قوله تعالى:
(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)
[سورة البقرة]
أي
لا ترهبوا أحداً غيري، ومن خاف غير الله فهذا نقص في
توحيده، والنقص في توحيده يدفعه إلى النفاق، والنفاق
ضعف في الإخلاص وضعف الإخلاص ضعف في التوحيد.
(ما
من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته
فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك
مخرجا، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من
نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب
السماء بين يديه)
أقسام الناس حول عبادة الله والاستعانه به:
أيها الإخوة الكرام،
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
الناس حول هذين الأصلين ـ وهما العبادة والاستعانة ـ
أربعة أقسام، ودققوا في هذا الكلام:
1. قسم عبده واستعان به:
أجلها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله الذين
نفذوا قوله تعالى:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
بعد
أن تحققوا من أبعاد هاتين الآيتين أهل العبادة
والاستعانة، فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن
يعينهم عليها، ويوفقهم للقيام بها ولهذا كان من أفضل
ما يُسأل الله تبارك وتعالى: الإعانة على مرضاته، أعظم
دعاء، وأعظم طلب أن تستعين بالله على مرضاته والذي
علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحبّه معاذ بن جبل رضي
الله عنه،
فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:
أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي لأُحِبُّكَ يَا
مُعَاذُ فَقُلْتُ وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي
كُلِّ صَلاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ
وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ
[أبو داود]
لهذا قال العلماء: أنفع الدعاء: طلب العون على مرضاته
وأعظم العطاء أن يسعفك الله بهذا الطلب، وجميع الأدعية
المأثورة مدارها على هذا.
وقال أحد العلماء: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال
العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
أي
نقص تعانيه في حياتك لا لضعف قدراتك ولا لضعف حظك من
الله عز وجل كما يتوهم بعض الضلال، أي ضعف في حياتك هو
نقص في استعانتك، وأضعف إنسان بإمكانه أن يستعين بالله
وإذا كان الله معك فمن عليك
وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإذا
أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله، وإذا أردت أن تكون
أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك
هذا
القسم الأول، عبدوا الله، واستعانوا به على مرضاته،
وهو أعلى قسم.
2. قسم لم يعبده ولم يستعن به:
هم
المعرضون عن عبادته، والاستعانة به، فلا عبادة، ولا
استعانة، بل إن سأله أحدهم واستعان به، فعلى حظوظه
وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه، فإنه سبحانه يسأله
من في السماوات والأرض: يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمد
هؤلاء وهؤلاء.
قال تعالى:
(كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ
رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)
[سورة الإسراء]
والعياذ بالله الذين استكبروا أن يعبدوه، واستكبروا أن
يستعينوا به، وإذا استعانوا به لظرف طارئ فعلى شهواتهم
وحظوظ أنفسهم وتمكنهم من الدنيا، أبغض خلقه: عدوه
إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجةً، فأعطاه إياها ومتعه
بها، ولكن لم تكن عوناً له على مرضاته، كانت زيادةً له
في شقاوته، وبعده عن الله، وطرده عن رحمته، وهكذا كل
من استعان به على أمر، وسأله إياه، ولم يكن عوناً على
طاعته: كان هذا الأمر مبعداً له عن مرضاته، قاطعاً له
عنه.
لذلك:
ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، ولو عرفت حكمته
في المنع لانقلب المنع عين العطاء
قال
تعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
[سورة البقرة]
أيها الإخوة الكرام، لو تأمل العاقل هذا في نفسه وفي
غيره، وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة
السائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها
هلاكه وشقوته، لأن الإنسان مخير، وهذا أساس الاختيار،
ويكون قضاؤها له من هوانه عليه، هذا كلام يملأ قلب
الإنسان سعادةً قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها
هلاكه وشقوته ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من
عينه ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتتحطم
أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله.
أيها الإخوة الكرام، ويكون بالمقابل منعه منها لكرامته
عليه، ومحبته له، فيمنعه حمايةً وصيانةً وحفظاً، لا
بخلاً.
إن
الله ليحمي عبده من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من
الطعام
إن الله ليحمي عبده من الدنيا كما يحمي الراعي الشفيق
غنمه من مراتع الهلكة
فإذا مَنَعَه منَعَه حمايةً وصيانةً وحفظاً، لا بخلاً،
لأنه علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان
كيف كان يكون.
أيها الإخوة الكرام، الجاهل إذا طلب من الله حاجةً من
الدنيا ليستعين بها على شهواته، وأعطاه الله إياها
يتوهم أن الله يحبه، وقد كرمه بها، لأنه قضى حاجته،
وهذا وهم لا أصل له، لأن الله عز وجل يقول:
(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ
(15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ
رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ
كَلَّا)
[سورة الفجر]
كلا
أداة نفي وردع، أن لا يا عبادي لا كما تتوهمون ليس
عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً عطائي ابتلاء وحرماني
دواء، المال ليس نعمةً وليس نقمةً إنما هو ابتلاء فإذا
أنفق في طاعة الله كان من أجل النعم، والصحة ليست
نعمةً ولا نقمةً فإذا أُنفقت في طاعة الله كانت من
أجلّ النعم، أية نعمةٍ أي حظٍ هو سلم نرقى به، أو
دركات نهوي بها، النعمة التي أنعم الله بها علينا
موقوفة على نوع استخدامها.
أيها الإخوة الكرام، قال تعالى:
(وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)
[سورة القصص]
أسعد الناس هم الذين أوتوا حظاً من الدنيا فوظفوه في
طاعة الله هم الذين أوتوا حظاً من العلم فأنفقوه في
سبيل الله، هم الذين أوتوا حظاً من المال فأنفقوه
بسخاء، هم الذين أوتوا حظاً من الجاه فبذلوه في نصرة
الضعيف،
(وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)
[سورة القصص]
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
[سورة البقرة]
والإنفاق واسع جداً.
أيها الإخوة الكرام، هذه الآية:
(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَكْرَمَنِ)
[سورة
الفجر]
كأن
الله عز وجل يريد أن يقول لنا ليس كل من أعطيته ونعمته
وخولته فقد أكرمته وما ذلك لكرامته علي
ورد في الآثار القدسية:
وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه
إلا ابتليته بكل سيئةً كان عملها سقماً في جسده، أو
إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ
منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات
الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه
3. قسم عبد الله ولضعف توحيده ضعفت
استعانته:
فلم
تَنفُذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك، ومن السبب
إلى المسبب، ومن الآلة إلى الفاعل، فضعفت عزائمهم
وقصرت هممهم فقل نصيبهم من
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير، بحسب
استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة
والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، هؤلاء عبدوا ولكن
ضعفت استعانتهم، غاب عنهم أن الأمر كله بيد الله،
دقيقة هذه الفكرة، هم يعبدون الله يصومون ويصلون
ويغضون أبصارهم ويحررون دخلهم ولكن غاب عنهم لضعف
توحيدهم أن الأمر كله بيد الله، وأن الله بيده مقاليد
السماوات والأرض، وأنه ليس مع الله أحد يفعل شيئاً،
هؤلاء الذين ضعفت هذه الصورة وضعف هذا التوحيد عندهم
وضعفت استعانتهم فخذلوا واستكانوا وضعفت معنوياتهم
نقول هؤلاء عبدوا الله ولكنهم لم يستعينوا به كما
ينبغي، فإذا وفقوا فلاستعانتهم، وإن لم يوفقوا لضعف
استعانتهم.
أيها الإخوة الكرام، تصور طفلاً صغيراً مع أبويه حالته
فيما ينوبه من رغبة أو رهبة متعلق بأبويه وحدهما،
فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه، وحبسه
همته على إنزال ما ينوبه بهما، فهذه حال المتوكل، ومن
كان هكذا مع الله، فالله كافيه ولابد، قال تعالى:
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)
[سورة
الطلاق]
4. قسم لم يعبد الله، ولكن استعان
به:
وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ذلك
ما يحبه ولا ما يرضاه فتوكل عليه، واستعان به على
حظوظه وشهواته وأغراضه، وطلبها منه، وأنزلها به، فقضيت
له، وأسعف الله بها، سواءً كانت أموالاً أو أولاداً أو
جاهاً عند الخلق أو أحوالاً من كشف، وتأثير، وقوة
وتمكين، ولكن لا عاقبة له، قال تعالى:
(وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)
[سورة البقرة]
هناك من يعمل في حقل لا يرضي ويقول الله وفقني، استعان
بالله ولا يعرف عن منهج الله شيئاً، استعان به على
شهواته وعلى حظوظه الدنيئة فنالها هذا ليس له في
الآخرة من خلاق.
الخلاصة:
أيها الإخوة الكرام، هذان الآيتان الكريمتان في
الفاتحة
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
العبادة لها أصلان: الحب والخضوع، والاستعانة لها
أصلان: الثقة والاعتماد، وقدمت العبادة على الاستعانة
لأن العبادة هدف، والاستعانة وسيلة.
والناس حيال ” إياك نعبد وإياك نستعين ” أربعة أقسام:
• قسم عبد الله،واستعان به، وهؤلاء صفوة الله من خلقه،
• وقسم لم يعبده، ولم يستعن به، وهؤلاء من شرار الخلق،
• وقسم لضعف توحيده عبد الله، ولم يستعن به، فكل ما
يعانيه من ضعف، وهذا شأن بعض المسلمين، بل شأن جل
المسلمين بسبب نقص استعانته بالله،
• وقسم استعان به على شهوات الدنيا فنالها، وماله في
الآخرة من خلاق.
والحمد الله رب
العالمين
0 التعليقات: