الوسطية في الاسلام
الذكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله
الرحمن الرحيم
من خصائص هذا الدين الحنيف
1. أنه رباني المنهج، رباني الغاية رباني الوجهة،
2. وأن هذا الدين الحنيف إنسـاني الطابع، 3. يشمل كل مكان وكل زمان، 4. ويصلح لكل مكان وكل زمان، 5. وأن هذا الدين الحنيف واقعـي، بمعنى أنه لا يقبل الواقع السيئ، لكنه يطوره بأدوات واقعية، 6. وأن هذا الدين الحنيف واضح لا يزيغ عنه إلا ضال، 7. وأنه يجمع بشكل معجز بين الثبات والتطور،
8. ومن أبرز خصائص هذا الدين الحنيف الوسطية أو
التوازن، وهو موضوع الخطبة اليوم، وسيكون تناول هذا
الموضوع إن شاء الله تعالى من زاوية معان الوسطية في
الإسلام، ومن زاوية مظاهرها في العقيدة، والمنهج،
والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، والنظم .
تعريف الوسطية في الإسلام
إن من أبرز خصائص هذا الدين القويم الوسطية أو
التوازن، ونعني بالوسطية التوسط أو التعادل بين طرفين
متقابلين أو متضادين، حيث لا ينفرد أحدهما في التأثير،
ويطرد الطرف الآخر، حيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من
حقه، ويطغى على الطرف الآخر، ويحيف عليه، فلا إفراط،
ولا تفريط، ولا غلو، ولا تقصير، ولا طغيان، ولا إخسار،
ولا شطط، ولا وكس، بل كلٌ يأخذ حقه بالقسطاس المستقيم
.
وسطية الإسلام بين:
فالإسلام أيها الإخوة وسط بين المادية المقيتة
والروحية الحالمة،
بين الواقعية المرة والمثالية التخيلية، بين الفردية الطاغية والجماعية الساحقة، بين الثبات الرتيب والتغير المضطرب، بين الحاجات الملحة والقيم البعيدة، بين العقلانية الباردة والعاطفية المتقدة، بين نوازع الجسد ومتطلبات الروح . والوسطية في الإسلام تنطلق من قوله تعالى :
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)
[سورة البقرة 143]
الوسطية شعار الأمة الإسلامية
يا أيها الإخوة الأكارم، من حكمة الله تعالى أنه
اختار الوسطية أو التوازن شعاراً مميزاً لهذه الأمة،
التي هي آخر الأمم، ولهذه الرسالة التي ختمت بها
الرسالات، إذ بعث بها خاتم أنبيائه رسولاً للناس
جميعاً، ورحمة للعالمين قاطبةً، وقد فسر النبي صلى
الله عليه وسلم هذه الوسطية في قوله تعالى :
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)
معاني الوسطية
1.العدل
والعدل هو توسط بين طرفين متنازعين دون ميل أو تحيز
لطرف أو لجهة، والعدل إعطاء كل ذي حق حقه دون بخس أو
جور، قال المفسرون في قوله تعالى :
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ)
[سورة القلم]
أوسطهم أي أعدلهم، فأعدل بقاع الشيء وسطه، ووسط
الدائرة مركزها، ثم استُعير الوسط للخصال البشرية
المحمودة، لأنها وسط بين الخصال المذمومة، فالشجاعة
مثلاً وسط بين الجبن وبين التهور .
2.استقامة المنهج، والبعد عن الميل
والانحراف
فالصراط المستقيم هو كما قال أحد المفسرين الطريق
السوي، الواقع وسط الطرف المنحرفة عن القصد، فإذا
فرضنا خطوطاً كثيرةً واصلة بين نقطتين متقابلتين،
فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط
المنحنية أو المنكسرة، هو وسطها، وأقصرها إلى الهدف،
والمسلم أيها الإخوة يسأل ربه أن يهديه إلى الصراط
المستقيم كل يوم ما لا يقلُّ عن سبع عشرة مرة، وذلك
حينما يقرأ الفاتحة،
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)
فالمغضوب عليهم هم الذين أفرطوا، والضالون هم الذين
فرطوا، المغضوب عليهم هم الذين عرفوا وانحرفوا،
والضالون هم الذين جهلوا فانحرفوا .
3.والوسطية في الإسلام تعني الخيرية،
والفضل، والتميز في الأمور المادية المعنوية
فأفضل حبات العقد في واسطته، ورئيس القوم في الوسط
والأتباع من حوله، وفي الأمور المعنوية نجد التوسط خير
من التطرف، ومن حكم العرب : خير الأمور الوسط، وقال
أحد الحكماء : الفضيلة وسط بين رذيلتين،
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً )
الوسط هاهنا الخيار والأجود، كما يقال قريش أوسط
العرب نسباً، أي خيرها، وكان عليه الصلاة والسلام
وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، والصلاة الوسطى أفضل
الصلوات .
في الإسلام جانب فكري، وجانب نفسي، وجانب سلوكي، فحينما ينمو جانب من هذه الجوانب نمواً زائداً عن حده الطبيعي، ويكون هذا عادة على حساب الجوانب الأخرى عندئذ يكون التطرف، أما حينما تنمو الجوانب الثلاثة نمواً طبيعياً متوازناً حيث لا يطغى جانب على جانب عندئذ يكون التفوق، فنحن نتطلع إلى التفوق لا إلى التطرف .
4.الوسطية أيضاً تمثل الأمان والبعد
عن الخطر
فالأطراف عادة تتعرض للخطر والفساد، بخلاف الوسط، فهو
محمي محروس بما حوله، والتوسط أمن واستقرار، والتطرف
غلو وانحراف وفساد، والوسطية تمثل القوة، فالوسط هو
مركز القوة، أشعة الشمس لا تكون أقوى تأثيراً إضاءة
وحرارة إلا وهي في وسط النهار وفي وسط قبة السماء، ولا
يكون الإنسان في أقوى حالاته إلا في شبابه وهو وسط بين
ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة،
5.والوسطية، تمثل نقطة الوحدة ومركز
التلاقي
فعلى حين تتعدد الأطراف تعدداً قد لا يتناهى يبقى
الوسط واحداً يمكن لكل الأطراف أن تلتقي عنده، فهو
المنتصف وهو المركز، مركز الدائرة في وسطها، فيمكن
الآيبة من المحيط أن تلتقي عنده والفكرة الوسطى يمكن
لك الأفكار المتطرفة أن تلتقي بها في نقطة ما، اذاً
فالتوسط والاعتدال هو طريف الوحدة الفكرية ومركزها،
ولهذا أيها الإخوة تثير الأفكار المتطرفة من الفرقة
والخلاف في أبناء الأمة الواحدة ما لا تثيره المذاهب
المعتدلة في العادة التي وفق الكتاب والسنة .
مظاهر الوسطية في الإسلام
في العقيدة
1. الإسلام وسط بين اعتقاد الخرافيين الذين يصدقون
كل شيء، ويؤمنون بكل برهان، وبين الماديين الذين
ينكرون كل شيء وراء الحس، ولا يصغون إلى صوت الفطرة،
ولا إلى نداء العقل، ولا إلى صراخ المعجزة، فالإسلام
الحق يدعو إلى الإيمان، والاعتقاد بما قام عليه الدليل
القطعي، والبرهان ليقيني، ويعد اليقين الحسي، واليقين
الاستدلالي، واليقين الإخباري مسالك يقينية للتلقي،
ويرفض كل ما وراء ذلك من الأوهام.
2. والإسلام وسط بين الذين يعدون الكون هو الوجود الحق، وما عداه مما لا تراه العين خرافة، ووهم، وبين الذين يعدون الكون وهماً لا حقيقة له، وسرابًا يحسبه الظمآن ماء، فالإسلام يعد الكون حقيقة، ولكنه يعبر من هذه الحقيقة إلى حقيقة أكبر منها يعبر من الكون إلى المكون، ومن الخلق إلى الخالق، ومن النظام إلى المنظم، ومن الصور إلى المصور، ومن التسيير إلى المسير، ومن التربيـة إلى المربي، فالكون حقيقة ينقلنا إلى حقيقة أكبر، وهي أن لهذا الكون خالقاً، ومربياً، ومسيراً، موجوداً، وواحداً، وكاملاً . 3. الإسلام وسط في نظرته إلى الأنبيـاء، فهم بشر مثلنا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ولكثير منهم أزواج وذرية، ولكنهم قمم في معرفة ربهم، وطاعتهم له، وإخلاصهم إليه، اصطفاهم، وطهرهم، وعصمهم، وامتن عليهم بالوحي، وأيدهم بالمعجزات، هذه نظرة الإسلام إلى الأنبياء .
في منهج البحث
والإسلام وسط بين الذين يؤمنون بالعقل وحده أداة
لمعرفة حقائق الوجود، وبين الذين لا يؤمنون إلا عن
طريق الإلهام، أو الأوهام، ولا يعترفون للعقل بدور في
نفي أو إثبات، إن الإسلام يقرر أن الدين في الأصل وحي
ونقل، وبما أن أخطر ما في النقل صحته فللعقل مهمتان
حيال النقل، مهمة إثبات صحة النقل، ومهمة فهم النقل
تمهيداً لتطبيقه، فبالعقل تصل إلى الإيمان بالله
يقيناً، وبالعقل تؤمن بكتابه يقيناً عن طريق إعجازه،
وبالعقل تؤمن برسوله يقينا عن طريق الكتاب، وهنا ينتهي
دور العقل في البحث ليبدأ دوره في التلقي إثباتاً
وفهماً، فالحقائق التي عجز العقل عن إدراكها لافتقارها
إلى آثار تدل عليها يتلقاها العقل عن الوحي دون أن
يكون حكماً عليها، وهذه وسطية الإسلام في منهج التلقي
.
في العبادات والمعاملات
والإسلام وسط في العبادات التي فرضها، فهو في
العبادات الشعائرية بين إلغائها وبين الانقطاع لها،
فالعبادات الشعائرية في الإسلام محدودة ومعقولة ومعللة
بمصالح الخلق، وهي فضلاً عن هذا فهي مرتبطة بالعبادات
التعاملية فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لا
يعد مصلياً، ومن لم يدع قول الزور والعمل به لا يعد
صائماً، ومن حج بمال حرام يقال له عند التلبية إذا قال،
لبيك اللهم لبيك، يقال له لا لبيك ولا سعديك وحجك
مردود عليك، والإنفاق مع الفسق غير متقبل.وركعتان من
ورع خير من ألف ركعة من مخلط، والخلط هو الذي خلط عملاً
صالحاً وآخر سيئاً، وترك درهم من حرام خير من ثمانين
حجة بعد حجة الإسلام، ومن لم يكن له ورع يصده عن معصية
الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عبادته وعمله،
فالإسلام عبادة وعمل عبادة متقبلة أساسها عمل صالح، وعمل الصالح ينطلق من عبادة صحيحة . وفي المعاملات الإسلام وسط وسطي أيضاً، قال تعالى :
(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ
هُمْ يَنْتَصِرُونَ)
[سورة الشعراء]
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
[سورة الشورى]
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)
[سورة النحل]
إخوة الإيمان في كل مكان، يتضح من هذه الآيات
الكريمة أن على المسيء أن يدفع ثمن إساءته ملزماً، وأن
لصاحب الحق أن يعفو عنه مختاراً، فالعدل قسري، والعفو
والإحسان طوعي .
في الأخلاق
وفي الأخلاق، الإسلام وسط بين غلاة المثاليين الذين
تصوروا الإنسان ملاكاً أو شبه ملاك ليس غير، فرسموا له
مستوى لم يستطع أن يصل إليه، وبين غلاة الواقعيين
الذين حسبوا الإنسان حيوان أو كالحيوان يعيش لشهوة،
ولكن الإسلام ينطلق من أن الإنسان ركب من عقل وشهوة،
فإن قاده عقله معرفة ربه، وضبط شهوته وفق منهج خالقه
سما وسما حتى تجاوز في سموه الملائكة المقربين، وإن
عطل عقله، أو أساء استخدامه فنسي سر وجوده، وجهل منهج
ربه، وتحكمت به شهواته ونزواته سقط حتى صار أدنى من
الحيوان .
في النظرة للحياة
1. والإسلام وسط في نظرته إلى الحياة الدنيا، فهو
بين الذين عدوا الحياة الدنيا هي كل شيء، وقالوا : إن
هي إلا حياتنا الدنيا، وما نحن بمبعوثين، فعبدوا
شهواتهم ومصالحهم المادية، وبين الذين عدوا وجودهم في
الدنيا شراً فانسحبوا من الحياة، وحرموا أنفسهم من
زينتها المشروعة، لقد عد الإسلام الحياتين الدنيا
والآخرة متكاملتين، فالأولى مطية الثانية .
2. والإسلام يحقق توازناً بين الروحية والمادية، وهو وسط بينهما، بين الدين والدنيا، بين القيم والحاجات بين الغريزة والعقل، بين الشهوة وبين المبدأ، الإنسان كما أراده الله عز وجل ليس الذي ينقطع عن العالم، وينسحب من الحياة، ويتفرغ للعبادة، ويتبتل فلا يعمل، ويتقشف فلا يتمتع، ويتبتل فلا يتزوج، ويتعبد فلا يفتر، ليله قائم، ونهاره صائم، يده من الدنيا صفر، وحظه من الحياة خبز الشعير، ولبس المرقع، ليس هذا هو الإنسان الذي أراده الله، كما أنه ليس كصاحب الجنتين يفخر على صاحبه منتفخاً بثروته مختالاً بجنته قائلاً : أنا أكثر منك مالاً، وأعز نفراً، قال تعالى :
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ
أَبَداً)
[سورة الكهف]
فأرسل الله على جنته حسباناً من السماء فأصبحت
صعيداً زلقاً، وأصبح ماؤها غوراً، وليس كقارون الذي
آتاه الله من الكنوز ما إن فاتحه لتنوء بالعصبة أولي
القوة، فبغى على قومه، واغتر بماله، وعزا الفضل إلى
نفسه وقال : إنما أوتيته على علم عندي، فخسف الله به
وبداره الأرض، الإنسان الحق ليس هذا ولا ذاك، فالإنسان
في نظر الإسلام مخلوق مزدوج الطبيعة، يقوم كيانه على
قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله،
قال تعالى:
(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ
إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ)
[سورة ص]
الإنسان بعنصره الطيني المادي قادر على أن يسعى في
الأرض، وعلى أن يعمرها على أن يكتشف ما أودع الله فيها
من كنوز ونعم، وعلى أن يسخر قواها لمنفعته، والنهوض
بمهمته
وهو بعنصره الروحي مهيأ للتحليق في أفق أعلى،
والتطلع إلى عالم أرقى، والسعي إلى حياة هي خير وأبقى،
وبهذا يسخر المسلم المادة، ولا تسخره، ويستخدم ما على
الأرض من ثروات وخيرات دون أن تستخدمه، ودون أن
تستعبده .
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل من طيبات الحياة الدنيا، ولم يحرمها على نفسه، ولكنه لم يجعلها شغل نفسه، ولا محور تفكيره، وكان من دعائه :
((اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا
ولا مبلغ علمنا))
وكان صلى الله عليه وسلم حينما يرى من بعض أصحابه
إفراطاً في التعبد، والصيام، والقيام على حساب الجسم
والأهل والعمل يقول له :
((إن لبدنك عليك حقاً وإن لزوجك
عليك حقاً وإن لزورك – أي ضيوفك – عليك حقاً فأعط كل
ذي حق حقه))
وكان عليه الصلاة والسلام يقول :
((أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له
ولكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء هذه سنتي
فمن رغب عن سنتي فليس من أمتي))
وكان عليه الصلاة والسلام يحذر أصحابه من أن تفتنهم
الدنيا فيقول :
((والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن
أخشى عليكـم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان
قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلكم كما أهلكتهم))
أيها الإخوة الكرام، هنا محل الإشارة إلى أن بر
الوالدين من خلال الأحاديث النبوية العديدة يعدل
الجهاد في سبيل الله، وأن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل
الجهاد في سبيل الله، وأن حسن تربية الأولاد، ولاسيما
البنات منهم طريق إلى الجنة وهو العمل الذي لا ينقطع
عند موت صاحبه، بل إن العمل الذي يرتزق منه المسلم إذا
كان في الأصل مشروعاً، وسلك فيه الطرق والأساليب
المشروعة، وأراد منه المسلم كفاية نفسه، وأهله وخدمة
المسلمين، ولم يشغله عن فرض ديني، أو واجب، أو طاعة،
أو طلب علم أصبح عمل المسلم أو حرفته نوعاً من أنواع
العبادة يتقرب بها إلى الله تعالى .
في النظم الحاكمة للفرد والمجتمع
فبالإسلام تلتقي الفردية والجماعية في صورة متزنة
رائعة تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة، وتتكافأ
فيها الحقوق والواجبات، وتتوزع فيها المغانم والتبعات
بالقسطاس المستقيم، إن المشرع في الإسلام هو خالق
الإنسان، فمن المستحيل أن يشرع الخالق الحكيم من
الأحكام والنظم ما يعطل فطرة الإنسان، أو يصادمها، وقد
خلق الله الإنسان على طبيعة مزدوجة فردية واجتماعية في
آن واحد، فالفردية جزء أصيل في كيان الإنسان، ولهذا
يحب الإنسان وجوده، وسلامة وجوده، وكمال وجوده،
واستمرار وجوده، ومع ذلك نرى فيه نزعة فطرية إلى
الاجتماع بغيره، لذلك تضطرب نفسه، ويختل توازنه لو عزل
نفسه عن المجتمع، أو عزل مقهوراً بالحبس الانفرادي،
والنظام الأكمل لهذا الإنسان هو الذي يرعى فيه هذين
الجانبين الفردية والجماعية، فلا يطغى أحدهما على
الآخر، لذلك فلا عجب أن يكون الإسلام، وهو دين الفطرة
نظاماً وسطاً عدلاً، فلا يجور على الفرد لحساب
المجتمع، ولا يحيف على المجتمع من أجل الفرد، ولا يدلل
الفرد بكثرة الحقوق التي تمنح له، ولا يرهقه بكثرة
الواجبات التي تلقى عليه، وإنما يكلفه من الواجبات في
حدود وسعه من دون حرج ولا إعنات .
والإسلام بوسطيته يقرر للإنسان من الحقوق ما يكافئ واجباته، ويلبي حاجاته، ويحفظ له كرامته، ويصون له إنسانيته، لهذا ومراعاة للجانب الفردي في الإنسان قرر الإسلام حرمة الدم، فحفظ للفرد حق الحياة، وأعلن القرآن أنه :
(مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعاً)
[سورة المائدة : 32]
لذلك أوجبت الشريعة القصاص في القتل، وأكدت أن في
القصاص حياةً للفرد والمجتمع .
وقرر الإسلام حرية الاعتقاد، فلا يجوز أن يكره الإنسان على ترك دينة، واعتناق دين آخر، وقرر الإسلام حرمة العرض، أي سمعة الإنسان، فصان للفرد حق الكرامة فلا يجوز أن يهان في حضرته، ولا أن يؤذى في غيبته . وأكد الإسلام حرمة المال، فصان للفرد حق التملك، فلا يجوز أخذ ماله إلا بطيب نفس منه . وأكد الإسلام حرمة البيت، فصان بذلك للفرد حق الاستقلال الشخصي، فلا يجوز لأحد أن يقتحم عليه بيته بغير إذنه . وأكد الإسلام حرية النقد البناء المخلص. وأكد الإسلام المسئولية الفردية التي هي ثمرة التكليف، وحرية الكسب، وحتمية الجزاء . أيها الإخوة الكرام، ثم إن الإسلام مراعاة للجانب الاجتماعي للإنسان، فقد فرض عليه للمجتمع واجبات تكافئ حقوقه عليه، وقيد هذه الحقوق والحريات والفردية بأن تكون في حدود مصلحة الجماعة، وألاّ يكون فيها مضرة للغير، وليس للفرد في مجتمع المسلمين أن يستخدم حقه فيما يؤذي الجماعة، ويضرها، كما أن حق الفرد إذا تعارض مع حقوق الجماعة، فإن حق الجماعة أولى بالتقديم.
والحمد الله
رب العالمين
|
0 التعليقات: