الذكتور محمد راتب النابلسي
|
بسم الله
الرحمن الرحيم
عالمية الإسلام:
عالمية الإسلام تعني أن الإسلام لم يكن يوماً
للعرب، ولم يكن القرآن يوماً لقريش فهو، منذ اليوم
الأول سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب
قريشاً، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب الناس كافة،
إنما يخاطبهم بمبدأ واحد، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف
واحد.. هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية
للعباد.. إلى العبودية لرب العباد بل إن هذه الحقيقة
هي فحوى دعوة الأنبياء جميعاً،
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ
لَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)
إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي !
وليس رسالة خاصة بالعرب ! إن موضوعه هو الإنسان.. أي
إنسان.. ومجاله هو الأرض.. كل الأرض إن الله سبحانه
ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون الإسلام
وحدهم..
إن الله هو ( رب العالمين ).. وهذا الدين يريد الله
منه أن يرد ( العالمين ) إليه، وأن ينتزعهم من
العبودية للبشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر.. إلى
العبودية لخالق البشر، وهذه هي العبادة التي لا يمكن
أن تكون إلا لله، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من
دين الله، مهما ادعى أنه من هذا الدين بمكان، ولقد نص
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاتباع هو
العبادة، فقال عن بعض المشركين:
إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا
لهم الحرام، فاتبعوهم، فتلك عبادتهم إياهم
قال المغيرة بن شعبة لرستم قائد جيش الفرس في
القادسية، وهو يسأله قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟
فيجيبه:
إنّ الله ابتعثنا لنخرج من شاء من
عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى
سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام
وقد أكدت هذه الحقيقة آيات القرآن الكريم، كما
بينتها الأحاديث النبوية، والسلوك النبوي الشريف، وهي
كثيرة نستعرض بعضاً منها:
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
لِلْعَالَمِينَ)
[سورة ص الآية: 87]
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
لِلْعَالَمِينَ)
[سورة التكوير الآية: 27]
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ)
[سورة الأنبياء الآية: 17]
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ)
[سورة آل عمران: الآية 96]
(وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)
[سورة يوسف الآية: 14]
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيرًا)
[سورة الفرقان الآية: 1]
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)
[سورة سبأ الآية: 28]
العولمة الغربية:
أما العولمة كما يريدها، ويروِّج لها دُعاتها لا
تعدو أن تكون تعبيراً معاصراً عن نزعة تسلطية قديمة،
صاحبت كل قوة غاشمة على مدار التاريخ.
إنها تضفي طلاءً من الذهب على الأغلال الحديدية،
وتتوارى خلف أقنعة زائفة من العبارات الجذابة،
والشعارات البراقة، كالعدالة، والديمقراطية، والحرية،
والسلام العالمي، والتعايش السلمي، وحقوق الإنسان،
ومكافحة الإرهاب… فهي علقم قديم في آنية جديدة
أبرز مظاهر هذه العولمة:
ولعل من أبرز مظاهر هذه العولمة انهيار السدود بين
الحضارات والثقافات، وفرض الهيمنة الغربية في مختلف
المجالات، سياسة، واقتصاداً، وإعلاماً، وفكراً، توطئة
للاستيلاء على ثروات الشعوب، وشل قدراتها الوطنية،
ومسخ هويتها، وخصوصياتها الحضارية، وتحويل أسواقها
المحلية إلى أسواق استهلاكية، تفتح الأبواب على
مصاريعها أمام الشركات الأجنبية لترويج منتجاتها،
وتراكم أرباحها.
وقد رأينا من ذلك بدايات مؤسفة، لا تخطئها العين،
تمثلت في شيوع التقاليد، والأزياء، وأنماط الحياة
الغربية، ومزاحمتها لمثيلاتها المحلية مع ما يجلبه هذا
الوافد الغربي من مفاهيم بلاده وقيمها، ولعل هذا يوضح
الصلة بين شيوع هذه المظاهر، وبين مظاهر التخنُّث،
وضعف التدين، وانفراط عقد الأسرة، وانتشار المخدِّرات
والجريمة المنظمة !
ولقد وعى القوم دروس التاريخ فقدموا القوة الناعمة،
وهي المرأة على القوة الضاربة، لأنها أقل استفزازاً
للآخرين، وأقل ظهوراً لهم، وأقدر على شلّ قدراتهم على
المقاومة، وأقتل لروح الاستبسال والمواجهة في صدورهم.
وإذا كان الأسلوب التقليدي لدى القوم قد تمثل في حمْل
الآخرين على فعل ما تريد، ولو باستخدام القوة المسلحة
فإن الأسلوب الأمثل اليوم يتمثل في حمل الآخرين على
إرادة ما تريد، والإقبال عليه عن طواعية واختيار، وهذا
يتوقف بطبيعة الحال على حسن تسويقه، وجاذبية عرضه من
ناحية، كما يتوقف على حجم الإغراء الذي تحمله الجوائز
التي تقدم ثمناً لمَن يتعاونون مع القوم من ناحية أخرى
!.
المشكل ليس في مبدأ العولمة:
المشكل القائم حالياً لا يكمن في مبدأ العولمة،
وإنما يكمن في نوعية هذه العولمة، وخصوصياتها،
وبنائها، فعولمة القطب الواحد فيها خصوصيات القطب
القوي الواحد، كالاحتكار، وإرادة الهيمنة، وسلوكية
الكيل بمكيالين، بعيداً عن روح المشاركة، والتنافس
الحر الشريف، ومن خصوصيات القطب الواحد قانون تضخيم
الأرباح، ولو على حساب الأرواح، وعدم خضوع هذا النظام
للشرائع الإلهية.
بين العالمية الإسلامية والعولمة
الغربية
ومما يجدر التنبيه إليه في هذا المقام ضرورة الفصل
بين العالمية التي جاءت بها شريعة الإسلام، والتي تبنى
على الوازع الديني، حيث الإسلام دين سماوي، وليس
موضوعاً من الموضوعات البشرية.
وما تحمله من رسالة حب ورحمة إلى العالم أجمع،
وبين العولمة، وما تعنيه من الهيمنة واستلاب الآخرين
لحساب قوى الاحتكار العاتية، بل لحساب حفنة من
المتضلعين في دماء الآخرين وأموالهم.
إن العالمية الإسلامية التي تحيل العالم إلى قرية
كونية واحدة، يتمتع الإنسان فيها بحق الاختيار، ويسود
فيها البر والقسط، ويتفيأ الإنسان فيها ظلال العدل
والرحمة، وتصان فيها حرمات المخالفين وحقوقهم هذه
العالمية يجب ألا تلتبس في ذهننا بالعولمة التي يدعو
لها حملة المشروع الغربي، والتي تحيل العالم إلى غابة
عالمية واحدة، يأكل القوي فيها الضعيف، ويزداد فيه
الأغنياء غنى، والفقراء فقراً !.
إن الاتجاه إلى العالمية برسالة حضارية عادلة لا حرج
فيه، ولا تثريب على دعاته، ولكن الحرج كل الحرج إنما
يكمن في روح الهيمنة، والجشع، والأنانية، والابتزاز
الذي تحمله هذه العولمة الجامحة، كما يدعو إليها
أباطرة العولمة، وقراصنتها من غير ضابط من دين أو خلق،
فليس الحرج في التوجه إلى العالمية في ذاته، والتعامل
مع الكيان البشري كأمة واحدة، وإنما يكمن الحرج في
المشروع الذي يحمله القائمون على هذا التوجه، عندما لا
يرون في الآخرين إلا أحجاراً على رقعة الشطرنج، يعبثون
بمقدراتهم ومصائرهم كما يشاؤون، الأمر الذي لا تقام به
دنيا، ولا يصلح به دين، ولا يزداد به العالم إلا شقاءً
فوق شقاء !
إننا نحن المسلمين نحمل مشروعاً حضارياً رائداً،
لُحمته الربانية، وسُداه البر والقسط، نبذله إلى
العالمين ما داموا لا يقاتلوننا في الدين، ولا يصادرون
علينا حقنا في أن نبسط دعوتنا إلى الآخرين.
فليس على دعاة الدين الحق والرسالة الخاتمة من حرج أن
يطوفوا بدعوتهم في المشارق والمغارب، يوطِّئون للحق
مهاداً، وينشرون له أعلاماً في إطار قاعدة
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)
[البقرة:256]
وتحت خيمة الربانية التي ترعى حقوق الموافقين
والمخالفين، حتى يتفيأ العالم ظلال هذه الرحمة العامة،
يفيء إليها من هجير الظلم، ورمضاء الأثرة، والجشع،
والأنانية، ويجد له موقعاً في سفينة الإسلام، التي
تمخر به عباب هذه الفتن المتلاطمة، حتى ترسو على شاطئ
النجاة في الآخرة.
العولمة َتحمل في طياتها بذور إخفاقها
وعوامل انهيارها:
إن هذه العولمة في إطارها اللاديني الجامح لَتحمل
في طياتها بذور إخفاقها، وعوامل انهيارها، فإنه لا
دوام لظلم، ولا بقاء لتعسف ولا جور، لقد حدثنا القرآن
الكريم عن دول قامت، ثم زالت، وعن حضارات صالت، ثم
انهارت، قال تعالى :
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ، الَّتِي لَمْ
يُخلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ، وَثَمُودَ الَذِينَ
جابُوا الصَّخرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي
الأَوْتَادِ، الَذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ،
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ)
[سورة الفجر الآيات: 6 ـ 14]
وقال تعالى :
(وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا
الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ
آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً
وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً
بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً، وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ
وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً)
[الفرقان الآيات: 37 ـ 39]
وقال تعالى :
(وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ
لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ، وَقَارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جاءَهُم مُّوسَى
بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا
كَانُوا سَابِقِينَ، فَكُلاًّ أَخذْنَا بِذَنْبِهِ
فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً
وَمِنْهُم مَّنْ أَخذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم
مَّنْ خسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ
أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ
وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
[العنكبوت الآيات: 38 ـ 4]
قال أحد حكماء الرومان حين وقف على أطلال روما:
إن أول رجل تسبَّب في خراب
الإمبراطورية هو الذي بدأ يقدم لها الأسلاب والغنائم
لأنه هو الذي أثار لدى أهلها شهوة النهب، والسيطرة،
وحرك شياطين الأثرة، والأنانية الكامنة وراء جلودهم،
قال نابليون:
إن الإمبراطوريات تموت دائماً بمرض
التخمة
أي أن جوفها يعجز عن هضم ما تلتهمه من الأقاليم
والشعوب !.
النظام العالمي الجديد والإسلام:
والنظام العالمي الجديد هو نظام دولة أو بضع دول
على هذه الكرة الأرضية، أما ما تبقى منها فهو دول
سابحة في هذا النظام الغريب، بعضها يعوم على السطح
بصعوبة، وعليه أن يثبت، وباستمرار، حسن النية،
والطاعة، والالتزام، ومع ذلك فهو دائما مخطئ، ومطلوب
منه أن يكفر عن ذنوبه، وبعضها الآخر غارق في القاع إلى
أجل غير مسمى، وأصبح كل ما يتماشى مع رغبات تلك الدول
الكبرى ديمقراطية وعدلا، وكل ما يحقق مصالحها هو حقوق
إنسان، وحضارة بشرية، ولم يعد مستغربا أن تصدر لوائح
تحدد فيها قيمة الإنسان لدى شعب، وما يقابلها لدى
الشعوب الأخرى كأسعار العملات.
هذا العدو الجديد الذي ظهر هو ديننا الإسلامي الحنيف،
دين الأخلاق، والعدل، والمحبة الذي تم تشويهه إعلاميا،
وتثقيفيا، وتربويا ليغدو دين القتل، والتطرف،
والإرهاب، فكلما حدث اضطراب في منطقة ما من العالم
وجهت أصابع الاتهام للإسلام، ولو لم يكن للمسلمين وجود
في تلك المنطقة، وكل عملية تخريب، أو عمل إرهابي منفذه
هو مسلم، حتى يثبت العكس، وغالبا ما يثبت العكس، أما
الاتهام فيبقى كما هو، وبالتوازي حورب الإسلام الصحيح
من خلال تغذية التطرف، واستخدامه في ضرب الإسلام
والمسلمين، والآن يصور هذا التطرف الذي جرت تنميته من
خارج الأمة الإسلامية على أنه الإسلام الحقيقي، وذلك
إمعانا في تشويه صورته الناصعة.
والحمد الله
رب العالمين
0 التعليقات: