العقل
العقل
العقل في اللغة وعند الفلاسفة و المسلمين
د. فهمي قطب الدين النجار
1-
في اللغة وعند
الفلاسفة
يُعَد العقل من المعاني
التي أثير بشأنها الجدلُ قديمًا وحديثًا.
•
فما هو العقل؟ هل هو جوهر أم هو عرض؟
•
وما هي وظيفته؟
•
وهل العقل هو القلب، أم هو العلم؟
•
أم هو عملٌ بالعلم؟
•
وما عَلاقة العقل بالدماغ الإنساني؟
هذه هي الأسئلة التي أثيرت حول العقل،
وتعددت الإجابات حولها منذ عهد الفلسفة اليونانية وحتى العصور الحاضرة.
وحتى يطلع القارئ على هذا الموضوع
الشائك، نستعرضُ بعض هذه الإجابات، ونبرز بعدَها - في مقالات تالية -
رأيَ الإمام ابن تيمية، الذي ناقش الآراء السابقة له وفنَّد أدلتها حول
معنى العقل ووظيفته.
أولاً: العقل في اللغة:
جاء
في لسان العرب[1]:
إن العقل مصدر عقَل.
قال
ابن الأنباري: رجل عاقل؛ أي: جامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقَلْت البعير
إذا جمعت قوائمه... وشدُّوها بحبل هو العِقال.
ولذا قالوا: سمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقِل صاحبه عن التورُّط في المهالك؛
أي: يحبسه.
وقيل: العاقل هو الذي يحبس نفسه ويردُّها عن هواها.
كما
قيل: إن العقل هو التمييز، وبه يفترقُ الإنسان عن سائر الأحياء، وبه
يفهمُ الإنسانُ ما لا يفهمه الحيوان.
وجاء في تاج العروس للزَّبيدي: العقل هو العلم، الحِجْر، النُّهْيَة،
وهو قوة، وهو غريزة.
والعقل هو القوة المهيَّأة لقبول العلم، وبه يستنبط العاقل الأمور.
وقيل: العقل نورٌ روحاني يقذِفُه الله في القلب والدماغ.
وقال أبو المعالي في الإرشاد: العقل هو علوم ضرورية، بها يتميَّز
العاقل عن غيره... وهو قوة للنفس بها تستعد للعلوم والإدراكات، وهو
المَعنيُّ بقولهم: غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات.
قال
الإمام علي - رضي الله عنه -: العقل عقلانِ؛ مسموع ومطبوع"؛ (انتهى
كلام الزَّبيدي).
ونخلص إلى القول:
إن العقل لغةً يُفِيدُ معاني عدة؛ منها: أنه قوة مهيَّأة لقَبول العلم،
وأنه غريزة في الإنسان، وأنه العلم، وأنه الحبْس والحجر، وأنه نور
يقذفه الله في القلب، وأنه التمييز بين الإنسان والحيوان.
ثانيًا: العقل عند الفلاسفة:
1-
في الفلسفة اليونانية ومَن تأثر بها:
نختار من الفلاسفة القدماء الفيلسوف
اليوناني أرسطو، الذي تأثر به كل مَن يطلق عليهم فلاسفة الإسلام؛ مثل
ابن سينا، والكندي، والفارابي.
يحدد أرسطو معنى العقل بأنه جوهر قائم
بنفسه، وهو أنواع متعددة؛ مثل:
•
العقل الهيولاني، أو العقل بالقوة، وهو الاستعداد المحض لإدراك
المعقولات، وهو قوة محضة خالية من الأفعال، وسمي بالهيولاني نسبة إلى
الهيولَى الأولى الخالية من الصور كلها.
•
والعقل الفعَّال، وهو العقل العاشر، وسمي فعالاً لكثرة أفعاله في عالم
العناصر.
•
والعقل بالفعل؛ أي النفس الناطقة.
•
وهناك العقل المستفاد والعقل المطلق... إلخ.
ولو
بحثتَ عمَّا وراء هذه الأنواع من العقول، أو عن مضمونها الحقيقي، لما
وجدتَ سوى أوهام، أو مجرد كلام نظري ناتج عن تأملات خيالية، لا حقيقة
خلفها.
ويأتي ابن رشد، فيقسم العقول إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول:
العقول البرهانية القادرة على متابعة
دليل يقيني محكم، وتصل إلى نتائج بيِّنة ضرورية، وربطُ هذه الأدلة هو
الذي يكوِّن الفلسفة، ولكن هذا لا يتسنَّى إلا لقلة من العقول
الموهوبة، بالقدر الذي يجعلها تكرِّس نفسها لها.
النوع
الثاني: عقول منطقية
تكتفي بالبراهين الجدلية.
النوع
الثالث: العقول التي
تستجيب للوعظ والأدلة الخطابية، وهذه غير مهيأة لاتِّباع الاستدلال
المنظم.
والعقول الأخيرة نجدها عند الناس
العاديين، وهم السواد الأعظم، الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة
فحسب[2].
ويردُّ أبو بكر بن العربي على الفلاسفة مُنكِرًا هذه الأنواع للعقل،
ويقول بأنها أسماء لا فائدة تحتها، وتهويلات لا طائل وراءها؛ وذلك أن
الأشياء والمدركات تسمَّى في نظره علمًا لا عقلاً؛ حيث قال - تعالى -:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 52]، كما أطلق عليها عقلاً بقوله: ﴿
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 4].
فالعقل عند ابن العربي هو العلم، وهو صفة يتأتَّى بها إدراك العلوم،
وهذا التعريف للعقل هو إحدى مقولات ابن تيمية في تعريف العقل، كما سترى
عند بحثنا للعقل عنده - رحمه الله.
2-
في فلسفة الأوروبيين في قرونهم الوسطى والحديثة:
أعطي هنا لمحاتٍ فقط عن العقل عند بعض الفلاسفة في القرون الوسطى
والحديثة - وليس كلهم - ولا أتعمَّق في حدوسهم، وأقول حدوسهم لأعبِّر
أن فلسفتهم آراءٌ وتأملات مبنيَّة على رؤيتهم العقلية للوجود والحياة،
وقد تصل إلى بعض الحقيقة وقد لا تصل، ولكن حتى أعطي القارئ الكريم
صورةً عن أسلوب تفكيرهم ونتائج هذا التفكير التي قد تلتقي مع الفكر
الإسلامي وقد لا تلتقي، بل قد تكون ضدَّه كما تمثَّل ذلك في الفلسفة
المادية الإلحادية عند كلٍّ من ماركس فيلسوف الشيوعية، وسارتر فيلسوف
الوجودية.
وحتى يقارِنَ المسلم بين حدوس الفلاسفة البشرية حول أثر العقل الإنساني
في الحياة، ونتاج الفكر الإسلامي لدى ابن تيمية - رحمه الله - كما
سأبينه - بإذن الله - في هذه الدراسة، ومن هؤلاء الفلاسفة[3]:
1-
أوغسطين (354 - 460م، عاش في شمال
إفريقيا قرب مدينة عنابة الجزائرية)، يُعَد من رجال الكنيسة،
ذكر في كتابه: "المعلم عام 389م":
•
الإيمان ضروري للعقل، والعقل ضروري للإيمان، أو كما يقول: "اعقِل
كي تؤمن، وآمِن كي تعقِل".
•
شعور الإنسان بوجود نفسه دليل على وجود الله.
•
الله والروح والعقل لا شك في أمرها.
•
الإلهام يشكِّل المصدر القوي للمعرفة الصحيحة.
2-
أنسلم (1033 - 1109م) قديس إيطالي، أصبح رئيس أساقفة في إنكلترا، سار
على نهج أوغسطين، ومن أفكاره:
•
العقل وحدَه هو وسيلة المعرفة، وهو سبيل الإيمان.
•
القلب سبيل الكشف والإلهام.
•
الكمال في الكون هو دليل وجود الله.
3-
توما الإكويني (1225 - 1274م) من فلاسفة الكنيسة، ولد في إيطاليا،
واعتمد على أفكار أرسطو، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد؛ ومن آرائه:
•
العقل والعقيدة يرميانِ إلى غرض واحد.
•
بالوحي يعلم الإنسانُ ما هو فوق العقل.
•
بالعقل نفهم الوجود، وبالعقل والوحي تتمُّ المعرفة، لكن العقيدة أولاً.
•
خلق الله العالم ورعى نظامه في خلق مستمر.
4-
مونتاني (1533 - 1592م)، كاتب ومفكر وفَرَنسي، من أفكاره:
•
لكل إنسان حق في أن يبحث عن الحقيقة بحرية.
•
الحواسُّ قد تخدع، والعقل قد يعجز.
•
الإنسان قد يعجز عن بلوغ الحقيقة والعدل.
5-
فرنسيس بيكون (1561 - 1626م) فيلسوف إنكليزي من أصحاب الفلسفة العقلية،
ويعدُّه الغربيون واضعَ المذهب التجريبي الذي يقوم على الاستقراء الذي
ينتقل من الوقائع المادية إلى القوانين.
قال
بأن العقل يكفي وحده للوصول إلى الحقيقة بدون الوحي.
7-
كانت (1724 - 1804م) فيلسوف ألماني، كان له أثر كبير في الفكر الغربي،
وذكر العقل في كتابيه المشهورين: "نقد
العقل الخاص"، و"نقد العقل
العلمي"؛ ومن آرائه في الكتابين:
•
التجربة الحسية تُوقِظُ العقل أكثر ممَّا تنفعه.
•
المعرفة ليست كلُّها من عمل الحواس.
•
قواعد الإيمان والأخلاق فوق العقل.
•
العقل يقوم بمهامِّه بواسطة الزمان والمكان فيرتب المدركات.
•
لا يستطيع العقل فهمَ حقيقة الأشياء ولباسها.
•
لا يتمكَّن العقل من البرهان على وجود الله، والدليل على وجوده العقل
الفطري المغروز فينا.
•
إن في أعماقنا صوتًا ينادِي ليدلَّنا على الخير والفضيلة، وهو خارج عن
مملكة العقل، وهو فطري فينا، وهو صوت الواجب.
7-
هيجل (1770 - 1831م) فيلسوف ألماني، من أفكاره:
•
لا يتم الوصول إلى حقيقة العالم إلا إذا تدرَّجنا بمراتب العقل من
الأدنى إلى الأعلى، وقال عبارته المشهورة: "إن
ما هو عقليٌّ حقيقي، وما هو حقيقي عقلي".
•
الحقيقة النهائية التي هي أساس كل الحقائق هي العقل.
•
إن الوحدة في الفكر هي وحدة أضداد، وإن المطلَق هو الانسجام بين
الأضداد، وهو ما أطلق عليه (الجدلية
الهيجلية أو التضاد)؛ أي إن الفكرة تتطور على مراحل: الإثبات،
ثم النقض، ثم الخلاصة، ومن هذه الفكرة استقى ماركس فكره.
8-
برغسون (1859 - 1941م) فيلسوف فَرَنسي، من أفكاره:
•
العقل ليس أداة صالحة لإدراك الحياة؛ لأنه والحواسَّ أدواتٌ للتجزئة.
•
البصيرة (أو الحدس) هي وحدَها
التي تُدرِك روابط الوجود؛ (فكرة تذكرنا
بآراء أبي حامد الغزالي).
•
انتقد "دارون" في قوله بالمصادفة
وبداية الخلق والتطور، وسأل:
هل يعقل أن العين
وطبقاتها مصادفة؟
•
وهل المصادفة هي التي خلقت الذكورة والأنوثة؟
•
العقل والدماغ ليسا شيئًا واحدًا، والدماغ هو المجرى الذي يسير فيه
تيار الإدراك، ولكن ليس الماء ومجراه شيئًا واحدًا.
9-
وليم جيمس (1842 - 1910م) عالم نفسي أمريكي، وصاحب مذهب البراجماتزم (الذرائعية)،
من أفكاره:
•
على الإنسان أن يتَّخذ من أفكاره ذرائع لحفظ حياته، ثم السير بالحياة
نحو الكمال ثانيًا.
•
الرأي الصحيح ما له فائدة عملية لأكبر عددٍ من الناس.
•
سلوكنا العملي هو الذي يُوجِّه أفكارنا، وليست أفكارُنا هي التي توجِّه
أعمالنا.
•
المدرك العقلي هو مدرك حسي يعمل بطريقة معيَّنة، والمدرك العقلي إما أن
يكون كلمة (وهي مدرك حسي)، وإما
صورة ذهنية (وهي مدرك حسي).
هذه
حدوس بعض الفلاسفة القدماء والمحدثين من الغربيين، والحدس قد يصدق وقد
يخطئ، عرضتُها ليتبيَّن القارئ الكريم قيمةَ العقل عند المسلمين بعامة
وعند الإمام ابن تيمية بخاصة، ويعرفَ أن العقل المسلم كان أكبر الأثر
في بناء الحضارة الإسلامية، الحضارة الإلهية القائمة على الرحمة والعدل،
والمعرفة الحقة، بينما نجد الفلسفة الغربية أودَتْ بأبنائها إلى حضيض
المادية المظلم، والأنانية الفردية.
2- عند العلماء المسلمين
رأينا في المقال السابق؛ تعريفات العقل عند أهل اللغة، وعند الفلاسفة؛ واليوم نعيش مع تعريف العقل عند العلماء المسلمين:
نورد آراء بعض العلماء السابقين لابن تيمية - رحمه الله - في العقل، وبخاصة أولئك الذين نوَّه بآرائهم أو ذكرهم في كتبه، منهم:
أ - الحارث المحاسبي[1]:
ألَّف كتابًا سماه: "مائية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه"[2]، يبيِّن فيه معنى العقل عنده، وينتقد معاني العقل عند بعض مَن سبقه.
يبين أن للعقل عند العلماء ثلاثةَ معانٍ:
أولها: أن العقل غريزة.
ثانيها: أن العقل فهم.
ثالثها: أن العقل بصيرة.
• ويؤكِّد أن العقل غريزة بقوله: "فالعقل غريزة جعلها الله - عز وجل - في الممتحنين من عباده"[3].
وقال: "فهو غريزة لا يعرف إلا بفعاله في القلب والجوارح، لا يقدر أحدٌ أن يصفَه في نفسه ولا في غيره بغير أفعاله"[4].
ورأى أن العقل غريزة، قال به الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ومعظم السلف[5]، والإمام أحمد ممَّن عاصر المحاسبي، وقد أضاف المحاسبي إلى قوله: إن العقل غريزة كلمة "نور"، فقال لما سئل عن العقل: "هو نور الغريزة، مع التجارب يزيد، ويقوى بالعلم وبالحِلْم"[6].
ويعارض المحاسبي قولَ البعض: إن العقل معرفةٌ: "وقد زعَم قومٌ أن العقل معرفةٌ نظمها الله ووضعها في عباده، ويتَّسِع بالعلم المكتسب الدال على المنافع والمضار، والذي هو عندنا أنه غريزة، والمعرفة عنه تكون"[7].
وكذلك سمَّى العربُ العقل فهمًا؛ "لأن ما فهِمْتَه فقد قيَّدْتَه بعقلك وضبَطْتَه كما البعير قد عُقِل؛ أي قد قيدت ساقه إلى فخذَيْه"[8].
وكذلك قالوا عن العقل: إنه البصيرة، والبصيرة ظاهرة عقلية، وليست هي العقل عند المحاسبي؛ لأن البصيرة هي فهم حقائق معاني البيان، وتحصل بعد العقل عن الله -تعالى- وبعد أن تعظُم معرفته بعظيم قُدْرة الله وبقدر نعمِه وإحسانه[9].
ب - قدامة بن جعفر[10]:
قال: "العقل قسمان: موهوب ومكسوب، فالموهوب خلقه الله، والمكسوب ما يستفاد من التجربة والعِبَر والأدب والنظر.
وقد شبَّه بعض القدماء العقل الغريزي بالبدن، وشبَّه المكتسب بالغذاء"[11]، ويُظهِر هذا القولُ أن قدامة متأثر بقول المحاسبي بأن العقل نور الغريزة يزيد ويقوى بالعلم[12].
جـ - الجُوَيني (إمام الحرمين)[13]:
قال السبكي في كتابِه طبقات الشافعية الكبرى: "قال إمام الحرمين في البرهان عند الكلام في تعريف العقل: (وما حوَّم عليه أحدٌ من علمائنا غير الحارث، فإنه قال: العقل غريزة يتأتَّى بها درك العلوم وليست منها، وقد ارتضى الإمامُ كلامَ الحارث هذا كما ترى، وقال عقيبه: إنه صفة إذا ثبت بها التوصُّل إلى العلوم النظرية ومقدِّماتها من الضروريات التي هي مستند النظريات، وهي منه بناء على أن العقل ليس بعلم)"[14].
د - أبو حامد الغزالي[15]:
قال في كتابه إحياء علوم الدين: "إن العقل يطلق على أربعة معانٍ:
فالأول: الوصف الذي يُفارِق الإنسان به سائرَ البهائم، وهو الذي استعدَّ به لقَبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي؛ حيث قال في حدِّ العقل: إنه غريزة يتهيَّأ بها إدراك العلوم النظرية.
الثاني: هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميِّز بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد.
الثالث:
علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال، فإن حنَّكَتْه التجارب، وهذَّبَتْه المذاهب يقال: إنه عاقل في العادة، ومَن لا يتصف بهذه الصفة، فيقال إنه غبي غُمْر جاهل، فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلاً.
الرابع: أن تنتهي قوَّة هذه الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذَّة العاجلة ويقهرها، فإذا حصلت هذه القوَّة سمِّي صاحبُها عاقلاً من حيث إقدامه وإحجامه، بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب، لا بحكم الشهوة العاجلة، وهذه أيضًا من خواصِّ الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان"[16].
هـ - ابن الجوزي[17]:
ينقل في كتابيه: (الأذكياء)، و(ذم الهوى) ما قاله الغزالي، ويضيف مبيِّنًا ماهية العقل: "يعرف العقل بسكوتِه وسكونه ومراقبته للعواقب، وليس العقل محسوسًا، وإنما يدل عليه ظاهرُ قول العاقل وعمله".
ويقول: "إنما تتبيَّن فضيلة الشيء في ثمرته وفائدته، وقد عرَفْتَ ثمرة العقل وفائدته، فإنه هو الذي دلَّ على الإله، وأمر بطاعته وامتثال أوامره"[18].
و - النَّسَفي[19]:
يُعرِّف العقل بقوله: "هو قوَّة للنفس بها تستعدُّ للعلوم والإدراكات، وهو المَعْنِي بقوله: غريزة يتبعُها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات، وقيل: هو جوهر تُدرَك به الغائبات والمحسوسات بالمشاهدة"[20].
ويقسِّم النَّسَفي العقل إلى غريزي واستدلالي، وهو في هذا متأثِّر بالمحاسبي أيضًا، والعقول عنده متفاوتة بحسب الفطرة:
• منها العقل البديهي، كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء، وهذا العلم لا يحتاج إلى دليل أو تفكير.
• ومنها العقل الاستدلالي: كالعلم بأن الدُّخَان علامة على وجود النار.
• ومنها العقل الاكتسابي، وهو أعمُّ من الاستدلالي، وهو يقوم على الاختبار بالحواس.
• ومنها يجيء بالإلهام، وهو ما يلقى في القلب مباشرة.
ز - أبو بكر الرازي[21]:
قال في كتابه "الطب الروحاني" معدِّدًا منافع العقل: "إن الباري - عزَّ اسمه - إنما أعطانا العقل وحبانا به لننالَ ونبلغ به من المنافع العاجلة والآجلة غايةَ ما في جوهر مثلِنا نَيْله وبلوغه، وأنه أعظم نِعَم الله عندنا، وأنفع الأشياء لنا وأَجْدَاها علينا...
فبالعقل فضَّلنا على الحيوان غير الناطق حتى ملكناها وسُسناها، وذلَّلناها وصرفناها في الوجوه العائدة منافعها علينا وعليها، وبالعقل أدركنا جميع ما يرفعنا، ويحسن ويطيب به عيشنا، ونصل به إلى بُغْيَتنا ومرادنا، فإنا بالعقل نِلْنا صناعة الطب الذي فيه الكثير من مصالح أجسادنا، وسائر الصناعات العائدة علينا، النافعة لنا، وبه أدركنا الأمور الغامضة البعيدة المستورة عنا، وبه عرَفْنا شكل الأرض والفلك، وعظم الشمس، والقمر وسائر الكواكب وأبعادها وحركاتها، وبه وصلنا إلى معرفة الباري - عز وجل - الذي هو أعظم ما استدركنا، وأنفع ما أصبنا.
وبالجملة، فإنه الشيء الذي لولاه كانت حالتنا حالة البهائم والأطفال والمجانين"[22].
هذه أقوال بعض العلماء في العقل ذكرتها على سبيل المثال لا الحصر، وبخاصة أولئك الذين تأثَّر بهم ابن تيمية - رحمه الله - في معاني العقل وذكر آراءهم، وكما رأينا أن رأي الحارث المحاسبي - رحمه الله - هو الأصل في آراء هؤلاء العلماء، وكلُّهم قد تأثر به، وكتابه "مائية العقل ومعناه، واختلاف الناس فيه" كان المرجع في عصره في هذا المجال...
إلا أن ابن تيمية - رحمه الله - يدرسُ العقل دراسة علمية دقيقة جدًّا، مبتدئًا بردِّ أقوال الفلاسفة اليونانية في العقل؛ أمثال أرسطو، وتلاميذ الفلسفة اليونانية من المسلمين؛ أمثال الفارابي والكندي، ومُبيِّنًا مكانةَ العقل في الإسلام وصلته بالنقل أو بالشريعة بعامة، فضلاً عن نقد المنطق الأرسطي الذي هو نتاج الحركة العقلية عند الإنسان، وهذا ما سندرسُه بشيء من التفصيل في دراستنا الميسَّرة هنا.
[1] الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبدالله، وُلِد ونشأ في البصرة سنة 165هـ، وكان عالمًا بالأصول والمعاملات والوعظ، وله تصانيف في الزهد والرد على المعتزلة وغيرهم، وقد أثر كثيرًا في علماء عصره في بغداد؛ حيث أقام بعد ذلك، من مؤلفاته: رسالة المسترشدين، ومائية العقل ومعناه، والتوهم، وآداب النفوس، وكتب أخرى كثيرة، ورد في تاريخ بغداد أن الحارث تكلَّم في شيء من الكلام فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى في دار ببغداد، وتوفي فيها سنة 243هـ؛ الأعلام للزركلي.
[2] العقل وفهم القرآن، للمحاسبي ص 193.
[3] المرجع السابق، ص 203.
[4] المرجع السابق، ص 204.
[5] الرد على المنطقيين لابن تيمية، ص 94.
[6] طبقات الشافعية للسبكي 2/41.
[7] العقل وفهم القرآن، ص 205.
[8] المرجع السابق، ص 208.
[9] المرجع السابق، ص 210.
[10] قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج، كاتب من البلغاء الفصحاء المتقدمين في علم المنطق والفلسفة، ويُضرَب به المثل في البلاغة، توفي ببغداد سنة 337هـ، له كتب؛ منها: الخراج، نقد الشعر، جواهر الألفاظ، الأعلام للزركلي، 5/191.
[11] العقل وفهم القرآن للمحاسبي، ص 186 - 187.
[12] المرجع السابق، ص 187.
[13] عبدالملك بن عبدالله بن يوسف بن محمد الجويني، الملقَّب بإمام الحرمين، أعلم المتأخِّرين، من أصحاب الشافعي، ولد في جُوَين من نواحي نيسابور سنة 419هـ، ورحل إلى بغداد، فمكة، حيث جاور أربع سنين، وذهب إلى المدينة فأفتى ودرس جامعًا طرق المذاهب، ثم عاد إلى نيسابور، فبنى له الوزير نظام الملك (المدرسة النظامية) فيها، وكان يحضر دروسَه أكابرُ العلماء، له مصنفات كثيرة؛ منها: غياث الأمم والتياث الظلم، والبرهان في أصول الفقه، قال بعضهم يصفه: الفقه فقه الشافعي، والأدب أدب الأصمعي، وفي الوعظ الحسن البصري، توفي سنة 478هـ؛ انظر: الأعلام للزركلي، ط 4، دار العلم للملايين، بيروت 1979م.
[14] العقل وفهم القرآن، ص 187.
[15] محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، حجة الإسلام، ولد سنة 450هـ في طوس بخراسان، ورحل إلى بغداد، فالحجاز، فالشام، فمصر، وعاد إلى بلدته، وتوفي سنة 505هـ، من مؤلفاته: إحياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفة، والاقتصاد في الاعتقاد، وفضائح الباطنية، وعشرات الكتب الأخرى، وكتب عنه الكثير.
[16] انظر: إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي 1/72.
[17] عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي، أبو الفرج، ولد ببغداد سنة 508هـ، وكان علامة عصره في التاريخ والحديث والوعظ، كثير التصانيف، له نحو ثلاثمائة مصنَّف، توفِّي في بغداد سنة 597هـ، تصانيفه جمعت التفسير، والحديث، والتاريخ، والسِّير، والعربية، والطب، والوعظ؛ منها: زاد المسير في علم التفسير، وتلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير، وتلبيس إبليس، والأذكياء، وغريب الحديث... إلخ؛ الأعلام للزركلي 3/316 - 317.
[18] ابن الجوزي: الأذكياء، ص 10 - 15، وذم الهوى، ص 805.
[19] محمد بن محمد أبو الفضل برهان الدين النسفي، ولد سنة 600هـ، وسكن بغداد، وتوفي فيها سنة 687هـ، عالم بالتفسير والأصول والكلام، من كتبه: الواضح في تلخيص تفسير القرآن للرازي، والمقدمة النسفية، وتسمى " المقدمة البرهانية " في الخلاف، وشرح الأسماء الحسنى.
[20] العقائد النسفية للنسفي، ص 46 - 61.
[21] محمد بن زكريا الرازي، أبو بكر، فيلسوف، من الأئمة في صناعة الطب وفي الكيمياء، ولد في الرَّي سنة 251هـ - 865م، وسافر إلى بغداد بعد سنِّ الثلاثين، وتوفِّي فيها سنة 313هـ - 925م، من مؤلفاته: الحاوي في صناعة الطب، وهو أجلُّ كتبه، تُرجِم إلى اللاتينية، وله تصانيف سمَّى ابنُ أبي أُصَيْبعة منها 232 كتابًا.
[22] انظر: مقام العقل عند العرب؛ قدري حافظ طوقان، ص 10.
|
0 التعليقات: